Monday, July 15, 2013

نصف الحقيقة وهم

نصف الحقيقة ... وهم

منذ المرة الأولى التي التقت نظراتهما فيها بالصدفة .. ربطت مقلتيه بخيوط حريرية غير مرئية بطيفها فلم يستطع أن يحول عينيه عنها، شدت جميع حواسه، كأنها مغناطيس عملاق أجتذب كل إدراكه وتركيزه.
سمراء ممشوقة القوام، ذات منحنيات ومنعطفات كاملة الاستدارة شديدة الإثارة، لم يتمالك نفسه وأستسلم لأسر جاذبيتها.
انسجام تركيبتها المتكاملة تعصف بكيانه، كلما رآها أرتبك وأحس ان جسمه وعقله شبت فيهما النار.
          ولكن .. هناك شيء ما .. يعكر صفو هذه السيمفونية الرائعة من الجمال والجاذبية والأنوثة .. أنه .. أنه .. بروز أسنانها الأمامية !
وكلما أقترب منها أكثر أزداد إنجذاباً إليها فهى حلوة الروح، بين طيات ملابسها - التى تختارها بعناية لتبرز جمالها وملامح شخصيتها- مخلوقة تحمل جميع المتناقضات، ولكن فى تناغم وتناسق رائع؛ تتحلى بخجل طفولى فطرى ممتزج بدلال وشقاوة؛ أنها زهرة برية؛ كل شيء فيها يشبة الزهور البرية: ألوانها، تمايلها، طباعها، حتى الرائحة التى تفوح منها؛ فهى على الدوام مغلفة بأريج مبهج لا يستطيع من يشمه إلا أن يبتهج وتسرى النشوة فى أعضاءه.
          بالإضافة إلى الاكتشاف الأكبر، وهو جمال صوتها، كانت تجلس إلى جواره، تلتصق به وتطوقه بذراعها وتغني له، فكانت تذهب بلبه وكأنه يسمع تلك الأغاني للمرة الأولى، كانت تذيب حواسه، وتطير بخياله لأبعد آفاق النشوة والسعادة.
والعجيب ان صورة فتاة أحلامه التي كانت تسيطر على خياله: بيضاء بضة ذات شعر حريرى منسدل، ولكنها سمراء وشعرها أجعد منتشر.
وكان دائم التساؤل: "لا أدري كيف تفعل ذلك بي!"
ذهب وراءها طالباً يدها.
مع الوقت والزواج لم يخبو وهج تأثيراتها عليه .. وأزداد تعلقه بها، وهى تزداد جمالاً .. وتألقاً ... وإثارة ... وشقاوة .. يوماً بعد يوم.. وكل يوم يكتشف فيها شيء جديد.
ولكن ...
لولا ذلك البروز فى اسنانها الأمامية.
ومع ازدياد تعلقه بها ... يزداد تأزماً من بروز أسنانها الأمامية ... ورغم ذلك لم يحدث منه أن زل لسانه واطلعها على تأثره ونفوره من ذلك "الضب".
لكن كيف تفوتها تلك الملاحظة وهي اللماحة شديدة الذكاء، فهي تستطيع أن تقرأ أفكاره من أقل لفتاته، تدرك مدى عشقه لها وشغفه بها، وفى نفس الوقت مدى الضيق الذى يسببه له ذلك البروز فى أسنانها الذى لا يد لها فيه، وهى تبادله شغفاً بشغف فهى لا تتخيل الحياة بدونه، وتستمتع أيما استمتاع وهى ترى نظرات العشق فى عينيه وترى الدنيا فى تعلقه بها .. فأصبحت لا تستطيع أن تحيا إلا له ولإسعاده.
أعدت العدة في الخفاء .. ذهبت إلى الطبيب فى اليوم المحدد ليقوم بنزع أسنانها الطبيعية البارزة وتركيب اسنان صناعية منتظمة الشكل والإتجاه، ووعدها بأن ضحكتها ستكون اكثر اشراقاً وجمالاً ودلالاً.
وبعد ان انتهت وذهبت إلى المنزل لتفاجئه .. وجدته جالس على الأريكة يخفى قلقه خلف الجريدة التى يتظاهر بأنه يقرأها.
فعلى غير عادتها لم تخبره إلى أين هى ذاهبة وإلى متى ستتأخر .. لم تفعل ذلك من قبل، ولم توحي أنه يمكنها أن تغيب عنه لحظة.
          وعندما دخلت ووقفت أمامه فى دلال مغلقة شفتيها حتى تطمأن أن كامل حواسه معها أنزل الجريدة ونظر إليها نظرة فيها شيئ من الغضب وكثير من القلق ... عندها نظرت إليه وفرجت شفتاها بابتسامة واسعة تكشف عن صفي اللؤلؤ.
وقعت منه الجريدة على الأرض من هول المفاجأة.
          وعندما تكلمت لتسأله عن رأيه ... اكتشفت كما أكتشف هو أن تغيير الأسنان قد أثر على صوتها.
          عندها وجد أمامه إنسانة أخرى غير تلك التى أغرم بها رغم بروز أسنانها، وكأن السحر قد أنفك وبطل تأثيره ... وكأن ما كان يراه فيها من نقص هو عين الكمال...
          ولم يستطع أن يتمالك نفسه أو أن يحبس الكلمات بين شفتيه ... وكان من قبل شديد الحساسية والانتقاء لكلماته حتى لا تمسها كلمة وتجرحها ... لشده ولعه بها... وبعد أن أخذ نفساً عميقاً ... قال لها:
-       أنت طالق.
*****
 وليد الحداد

ديسمبر 2010