Saturday, August 17, 2013

بقايا التاشر

بقايا التاشر


-         ياااه دا أنت قديم قوى يا باشمهندس.
قالها وهو يضحك .. ضحكة ملؤها الحيوية والشباب، ضحكة دفعتني للابتسام .. رغم المشاعر التي أثارتها في نفسي تلك الكلمات البسيطة التي أطلقها صديقي الشاب بعفوية شديدة.
رنت الكلمات في أذني كجرس منبه أيقظني من غفوة .. طار خلالها الزمن فاستيقظت لأجد نفسي بالفعل "قديم" ... قديم بحساب الزمان ... ولكن قلبي ما زال يعانى من أعراض التاشر.
خفق قلبى بشدة وكأنه يرفض الاعتراف بأنني صرت "قديماً" ، وثار محاولاً التأكيد على أني مازلت في سن التاشر.. كيف وقد جاوزت منتصف العمر وأنتشر الشيب في رأسي وغلب على لحيتي؟
مرت بجوارنا سهام .. تلك الأنثى التي تتفجر أنوثتها متجاوزة دروع حشمة ملابسها وما تحاول أن تظهره من الصرامة .. ليست صارخة الجمال .. لكنها محاطة بهالة غامضة من الجاذبية تجعل الأنظار دائماً مشدودة إليها .. طريقتها في الابتسام والكلام تفتح الشهية لافتعال أي حديث معها، عطرها الهادئ المميز ينبه الحواس .. ألتفت زميلي الشاب إليها ونادى عليها بحماسته المعهودة وقد تغيرت ملامح وجهه واكتست بحمرة .. داعياً إياها مشاركتنا في الحديث وإدلائها بالرأي.
كان الحديث عن مشاحنة بينه وبين خطيبته (أو من يود خطبتها) بسبب قبله لم ينلها، وإن كان تمنعها خيراً أم شراً .. وارتأى أن الحاجة ملحة لرأى أنثوي حيث ما زال يرى أن وجهة نظري "قديمة".
لم أصدق انه فعلا سوف يشركها معنا في الحديث! وأمسكت بيده ونظرت إليه مشدوها قائلاً في دهشة وفزع:
-         هتفضحنا الله يخرب بيتك.
أنفجر ضاحكاً من خجلي، مؤكداً أنهن خلاف ما أعتقد تماماً.
وفي إقبالها علينا تعثرت فمددت يدي، وكأني قد مددتها لالتقاط ثمار الرمان التي تدلت فجأة باحثة عن كفي لتستقر في راحتها.
اختلطت حمرة خجل وجنتيها بآهة فاضحة المدلول على ما يخالف مظهرها ثم على عكسي فلقد تجاوزت الموقف سريعاً واندمجت معنا في الحديث.
وقد كان مما كان من حضور سهام أنها أعادت لي ذاكرتي في حنيني إلى النساء وتأثري الشديد بهن إلى درجة كانت تخجلني .. لم أكن لأحب أن يظهر مدى تأثري برؤية أنثى لهذه الدرجة الفاضحة .. وكثيراً ما حبست نفسي وراء مكتبي لأن أحداهن مرت من أمامي وألقت عليَّ التحية أو كانت تمازح شخصاً ما فتبع تلك المزحة ضحكة ماجنة مطولة .. فتثور بداخلي تلك الرغبات والنزعات فاضحة التأثيرات .. فأضطر إلى التواري حتى أعود إلى حالتي الطبيعية .. فأين يمكنني الاختباء الآن؟
في الماضي كم حاولت أن أخفى تلك المشاعر عميقاً بداخلي .. أخفيها خجلاً ... وإحساساً بالذنب .. ويأساً .. وخوفاً .. وتعففاً، ومن شدة عمق المخبأ الذي أخفيها فيه أصبح من الصعب عليَّ إخراجها وقت حاجتي إليها.
كنت أظن أن تأثري بهن قد خفت ، ولكنه ما حدث الآن يثبت أنه خفوت ظاهري فقط.
مرت عليَّ أوقات كثيرة كنت أخجل من نفسي بشدة، حيث لا استطيع استدعاء قدرتي وقت مسيس الحاجة إليها.
وأعجب من حالي كيف كانت تلك المشاعر والتغيرات تفرض نفسها وتسيطر علي جسدياً وعاطفياً ويظهر تأثيرها جلياً مما يخجلني بشدة والحالة التي تسيطر عليَّ في غالب أوقاتي الآن والتي أيضاً تخجلني بشدة، ولكن ما حدث في تلك اللحظة يخجلني أيضاً، فهل تلك النفس اللعينة تلعب معي لعبة القط والفأر؟.
-         ياباشمهندس الكلام أيلي بتقوله ده ما ينفعش معاهم دلوقتي .. لازم يندبح لها القطة من أول لحظة.
أنقذني من افكاري، وقد كانت تلك العبارات التى رد عليا بها عندما نصحته (أمام سهام) بتدليلها، وذلك بخلاف النصائح الأخرى المتعلقة بكيفية ارضاءها وفي نفس الوقت نيل وطره منها، مما لا يجوز ذكره في حضور سهام.
-         يا حسين قطة أيه بس يا أبني .. أنت فاهم غلط .. أحنا في عصر تمكين المرأة، هتدبحلها القطة ممكن تدبحلك أسد أو تدبحك انت شخصياً وترفع عليك قضية بتهمة عدم الموت بطريقة رومانسية وخريت دم وبوظت السجادة.. يا أبني خاف على نفسك وأمشي جنب الحيط ، وأعقل كده، فطريقك يا ولدي مسدود مسدود مسدود.
          كاد يقع على قفاه من شدة الضحك.
-         أنت سددتها من أولها ليه يا باشمهندس .
          ثم ألتفت إلى سهام مخاطباً:
-         طيب بذمتك ده كلام يا سهام؟
          فنظرت سهام تجاهي .. نظرة تحمل العديد من المعاني المركبة المتداخلة والمتناقضة في آن واحد .. فلقد رأيت في عينيها شفقة مما قد يكون قد وصل إليها من كلامي من خوف طفولي من سطوة النساء وافتراءهن .. كما أن نظراتها كانت تحمل معاني الرغبة في ذلك الرجل الذي ينصح بتدليل المرأة وقد كان كفه يأوي رمانها في رقة متناهية منذ برهة .. فكيف هي حاله إذا أتيحت له فرصة حقيقية لتدليل أنثى راغبة .. كما أختلط كل ذلك بمعاني الإعجاب برأي من شرب من حكمة الأيام والسنون .. ثم علقت باسمة:
-         يا حسين أسمع كلام الباشمهندس أحسن لك .. دى خبرة سنين يا أبني مش أي كلام، أكيد هو مجرب وعارف.
وقعت عبارة "أكيد هو مجرب وعارف" وقع الصاعقة .. هل تقصدها فعلا وقد قالتها بعفوية؟ أم أنها تقصد بها أن تختبر مدى تجربتي ومعرفتي؟
أيقظت تلك العبارة ذات التأويلات المستترة في نفسي مارد التاشر، سريع الافتتان بالنساء .. سريع الوقوع في حبالهن والاستسلام لمكرهن.
استفاق الرجل الناضج مستدعياً صورة الشعيرات البيضاء التي بدأت تضيء رأسه محاولاً صرع المارد والسيطرة عليه ملقياً عليه تعاويذ طلسم "السنين" ليعيده مرة أخرى إلى القمقم ويلقيه في غياهم أعماق النفس، ليتذكر أن هيأته الوقورة ووضعه الاستشاري الآن لا يسمح له بإطلاق هذا الشيطان.
حاولت المقاومة وأنا أدافع تلك الأحاسيس الجياشة التي انتابتني عندما مسست جسدها وكأن جني قد مسني .. أنها ترفع الحواجز والأسلاك الشائكة التي أحاول دائماً أن أحبس وراءها ذلك الشهواني اليافع.
أن ما حدث جعل الأمواج والرياح مختلفة الاتجاهات والألوان تتدافعنى .. فتارة أجد نفسي طفلاً صغيراً يبحث عن أم ترعاه وترضعه.. وتارة شاباً يافعاً متقد الحماسة متأجج الأحاسيس والمشاعر .. وقد تاه الشيخ الحكيم ملجأ الحيارى والسائلين.
وبينما هم يتراوحون في الجدل حول حسين وخطيبته لاحظت أنى أطيل النظر واستمرأه حتى لا تبتعد سهام واشبع من حديثها الأنثوي واشبع حواسي من عطرها الدافئ واجتر اللحظة التي سقطت في يدي فاكهة الجنة التي تتدلى منها، حتى أنني لاحظت أنني أتابع لغة جسدها بكل هجاءتها فتعبيرات وجهها وحركات يديها وتموجات جسدها وهى تتكلم ... تثير حواسي كما كانت تفعل غيرها فى أيامي الغابرة .. إنها تستدعي ذلك الجزء مني والذي لم يزل في سن التاشر.
ثم أشرت إليها محدثاً صديقي الشاب .. وبدون أن أكون قد سمعت كلمة مما قالت .. فكل مدركاتي تتابع لغة أخرى تتحدثها غير الكلام.
-         شفت بقى الحكمة بتيجى منين ؟ اسمع كلام سهام عشان تكسب وتعيش حياة سعيدة مع خطيبتك إن شاء الله.
ثم حاولت التهرب والاختباء بعد ان صرت مفضوحاً، أو هكذا أعتقدت!
-         بعد إذنكم يا جماعة علشان المحاضرة هتبدأ .. انتوا مش ناويين تحضروا ولا ايه؟
          تنبهت إلى تلك المحاضرة التي يجب علينا أن نحضرها، فنحن فى صف واحد، وقد يكون السبب الأساسي لإلتحاقى بهذا الصف هو الهروب من واقع انى أصبحت "قديماً" وكنت أجتهد فيه أيما اجتهاد حتى اثبت للجميع أن "الدهن في العتاقي".. فذلك العجوز لا يزال يملك حماسة الشباب والقدرة على مجاراتها وإن كان في غرفة الدرس.
          وبعد أن انتهينا .. اقتربت منى سهام مبتسمة ثم وضعت يدها على يدي في لمسة سريعة كأنها لمسة مشجعة وقالت لي:
-         على فكرة آراءك عجبتنى قوى أنا حسيت أنى بتكلم مع إنسان رومانسي وحساس جدا، ياريت كل الرجالة زيك.
          قالتها ثم التفتت وانصرفت، بعد أن أيقظت كل المردة والوحوش القديمة التي كانت تسكن بين جنبات نفسي والتي كنت أظنها ماتت ودفنت وصارت رفاتاً، ولم أزل أتابعها بنظراتي وهى تبتعد لعلى ارتوى أكثر واتبين من لغة جسدها ما لم تكن لتقوله بكلماتها .
          استفقت وقد وجدتني واقفاً وحدي وقد انصرف الجميع .. أخرجت من جيبي تلك المفكرة الصغيرة التي تذكرني بمواعيدي .. فذاكرتي لم تعد تسعفني بما يجب عليَّ عمله.. وقبل أن أنسى خططت فيها بعض الخطوط التي تذكرني بالواجبات التي تم تكليفنا بها اليوم للمحاضرة القادمة .. ثم قلبت الصفحة لأتذكر المطلوب فعله الآن .
          موعد طبيب القلب بعد نصف ساعة من الآن !
          عندها أدركت أن سفينة التاشر وإن كانت ذكرياتها غضة وحاضرة إلا أنها تبتعد مسرعة .. فالقلب وإن كره .. إلا أنه كتب عليه أن يهرم مثلما يهرم كل شيء فى الحياة.
***
وليد الحداد
أغسطس 2011


Monday, July 15, 2013

نصف الحقيقة وهم

نصف الحقيقة ... وهم

منذ المرة الأولى التي التقت نظراتهما فيها بالصدفة .. ربطت مقلتيه بخيوط حريرية غير مرئية بطيفها فلم يستطع أن يحول عينيه عنها، شدت جميع حواسه، كأنها مغناطيس عملاق أجتذب كل إدراكه وتركيزه.
سمراء ممشوقة القوام، ذات منحنيات ومنعطفات كاملة الاستدارة شديدة الإثارة، لم يتمالك نفسه وأستسلم لأسر جاذبيتها.
انسجام تركيبتها المتكاملة تعصف بكيانه، كلما رآها أرتبك وأحس ان جسمه وعقله شبت فيهما النار.
          ولكن .. هناك شيء ما .. يعكر صفو هذه السيمفونية الرائعة من الجمال والجاذبية والأنوثة .. أنه .. أنه .. بروز أسنانها الأمامية !
وكلما أقترب منها أكثر أزداد إنجذاباً إليها فهى حلوة الروح، بين طيات ملابسها - التى تختارها بعناية لتبرز جمالها وملامح شخصيتها- مخلوقة تحمل جميع المتناقضات، ولكن فى تناغم وتناسق رائع؛ تتحلى بخجل طفولى فطرى ممتزج بدلال وشقاوة؛ أنها زهرة برية؛ كل شيء فيها يشبة الزهور البرية: ألوانها، تمايلها، طباعها، حتى الرائحة التى تفوح منها؛ فهى على الدوام مغلفة بأريج مبهج لا يستطيع من يشمه إلا أن يبتهج وتسرى النشوة فى أعضاءه.
          بالإضافة إلى الاكتشاف الأكبر، وهو جمال صوتها، كانت تجلس إلى جواره، تلتصق به وتطوقه بذراعها وتغني له، فكانت تذهب بلبه وكأنه يسمع تلك الأغاني للمرة الأولى، كانت تذيب حواسه، وتطير بخياله لأبعد آفاق النشوة والسعادة.
والعجيب ان صورة فتاة أحلامه التي كانت تسيطر على خياله: بيضاء بضة ذات شعر حريرى منسدل، ولكنها سمراء وشعرها أجعد منتشر.
وكان دائم التساؤل: "لا أدري كيف تفعل ذلك بي!"
ذهب وراءها طالباً يدها.
مع الوقت والزواج لم يخبو وهج تأثيراتها عليه .. وأزداد تعلقه بها، وهى تزداد جمالاً .. وتألقاً ... وإثارة ... وشقاوة .. يوماً بعد يوم.. وكل يوم يكتشف فيها شيء جديد.
ولكن ...
لولا ذلك البروز فى اسنانها الأمامية.
ومع ازدياد تعلقه بها ... يزداد تأزماً من بروز أسنانها الأمامية ... ورغم ذلك لم يحدث منه أن زل لسانه واطلعها على تأثره ونفوره من ذلك "الضب".
لكن كيف تفوتها تلك الملاحظة وهي اللماحة شديدة الذكاء، فهي تستطيع أن تقرأ أفكاره من أقل لفتاته، تدرك مدى عشقه لها وشغفه بها، وفى نفس الوقت مدى الضيق الذى يسببه له ذلك البروز فى أسنانها الذى لا يد لها فيه، وهى تبادله شغفاً بشغف فهى لا تتخيل الحياة بدونه، وتستمتع أيما استمتاع وهى ترى نظرات العشق فى عينيه وترى الدنيا فى تعلقه بها .. فأصبحت لا تستطيع أن تحيا إلا له ولإسعاده.
أعدت العدة في الخفاء .. ذهبت إلى الطبيب فى اليوم المحدد ليقوم بنزع أسنانها الطبيعية البارزة وتركيب اسنان صناعية منتظمة الشكل والإتجاه، ووعدها بأن ضحكتها ستكون اكثر اشراقاً وجمالاً ودلالاً.
وبعد ان انتهت وذهبت إلى المنزل لتفاجئه .. وجدته جالس على الأريكة يخفى قلقه خلف الجريدة التى يتظاهر بأنه يقرأها.
فعلى غير عادتها لم تخبره إلى أين هى ذاهبة وإلى متى ستتأخر .. لم تفعل ذلك من قبل، ولم توحي أنه يمكنها أن تغيب عنه لحظة.
          وعندما دخلت ووقفت أمامه فى دلال مغلقة شفتيها حتى تطمأن أن كامل حواسه معها أنزل الجريدة ونظر إليها نظرة فيها شيئ من الغضب وكثير من القلق ... عندها نظرت إليه وفرجت شفتاها بابتسامة واسعة تكشف عن صفي اللؤلؤ.
وقعت منه الجريدة على الأرض من هول المفاجأة.
          وعندما تكلمت لتسأله عن رأيه ... اكتشفت كما أكتشف هو أن تغيير الأسنان قد أثر على صوتها.
          عندها وجد أمامه إنسانة أخرى غير تلك التى أغرم بها رغم بروز أسنانها، وكأن السحر قد أنفك وبطل تأثيره ... وكأن ما كان يراه فيها من نقص هو عين الكمال...
          ولم يستطع أن يتمالك نفسه أو أن يحبس الكلمات بين شفتيه ... وكان من قبل شديد الحساسية والانتقاء لكلماته حتى لا تمسها كلمة وتجرحها ... لشده ولعه بها... وبعد أن أخذ نفساً عميقاً ... قال لها:
-       أنت طالق.
*****
 وليد الحداد

ديسمبر 2010

Wednesday, June 19, 2013

كيس الفشار

كيس الفشار
-         بابا انا عاوزة .. (مشيرة بأصبعيها الصغيرين رقم 2).
-         2 ايه؟
-         2 جنيه.
-         ليه يا فريدة.
صمتت قليلاً ثم بدت مضطربة وزامت شفتيها كأنها تقاوم الإجابة على السؤال .. ثم تحت وطأة نظرات بابا هزت يديها في توتر ثم أجابت ببراءة شديدة:
-         هاشتري كيس فشار .. صغير آآآآآآآآآآآآد كده.
حاول أن يكون هادئاً وهو يرد عليها:
-         فريدة مش كل يوم بنشتري كيس الفشار وبيقع منك؟
-         يا بابا هو ايلي بيقع لوحده .. بس ما تخافش يا بابا هاخد بالي المرة دي ومش هاوقعه.
وبعد وصلة من الجدل غير المجدي والذي يعرف نتيجته مسبقاً .. وتحت وطأة إلحاحها البريء وعدم وجود حجة يدحض بها حجتها .. في ما الضرر من شراء كيس فشار مع تعهدها بالحفاظ عليه لحين الانتهاء من أكله وأنها سوف تتشبث به بيديها الصغيرتين حفاظاً عليه من الوقوع.. فأخرج من جيبه جنيهين معدنيين وأعطاها إياهما.. فنظرت إليه نظرة امتنان ولكنها تذيلت بتعجب:
-         دول بس ؟
-         يا فريدة مش انتي قلتي يا حبيبتي عاوزة أتنين بس ؟
قبلتهم وولت متجهة إلى بائع الفشار وهي تشيح بيديها في استنكار واستسلام .. وهو لا يدري ما سبب اعتراضها.. وتابعها بنظره وهي تتجه نحو عربة الفشار ثم تتحدث إلى بائع الفشار وتشير إليه من بعيد .. ثم تناولت كيس الفشار وهي تحوطه بكامل الرعاية والاهتمام.. وتنظر إليه في سعادة بالغة ثم نظرت إلى بابا والابتسامة تكسو وجهها في براءة شديدة .. كانت تمشي بحذر وببطء شديد حتى تفي بعهدها وتحافظ على كيس الفشار من الوقوع.. وعندما التقت عيناهما لم يتمالك نفسه من الابتسام لأنه قد اشترى لها دقائق من السعادة بجنيهين فضيين .. وعندما لاحظت ابتسامته زادت ثقتها واتسعت خطواتها ثم بدأت في الجري نحوه وفجأة تعثرت فإذا به يقوم مفزوعاً ليلحق بها ويمنعها من السقوط .. فتمكن منها قبل أن تسقط وتصاب أو تجرح .. وهي فاردة ذراعيها تمدهم إلى الفضاء محاولة التمسك بكيس الفشار وحباته وفاء بعهدها.. ولكن لم يتمكن أي منهما من اللحاق بكيس الفشار فطار في الهواء وتناثر كالنافورة في الهواء ليسقط على الأرض مغطيا مساحة كبيرة حولهم .. ونسي للحظات قليلة مدى ضيقه من تناثر تلك الحبات البيضاء حوله .. وأخذ يتفحصها خوفاً من أن يكون قد أصابها مكروه .. فتفحص ركبتيها الصغيرتان وكفاها .. وهي واقفة بين يديه ترتعد جسدها الصغير النحيف من الخوف وتغالب دموعها وعندما أرتقت عيناه إلى وجهها ونظر إلى عينيها والتي تحولت السعادة فيهما إلى حزن عميق لا يخطأ تفسيره ودموع متحجرة تخشى إطلاقها.. فهي حزينة لعدم قدرتها على الحفاظ على وعدها.
قارن بين ابتسامتها وسعادتها منذ لحظات .. وحزنها وخيبة أملها الآن.. وكأنه يقرأ أفكارها فحزنها لم يكن بسبب بعثرة الفشار .. ولكنه كان بسبب أنها خيبت أمله بعدم قدرتها على إسعاده بالحفاظ على عهدها.
نظر في عينيها ممسكاً بيديها الصغيرتين .. وفي حركة تلقائية مد يده في جيبه مخرجاً جنيهين آخرين قائلاً:
-         ولا يهمك أتفضلي أدي 2 (مشيراً بأصبعيه الكبيرين) علشان تشتري غيره .. ولو وقع تاني مش هازعل .. بس أنتي ما تزعليش نفسك.
تلألأت الدموع في عينيها وانطلقت في سعادة بالغة .. وهو يتابعها بعينيه وقلبه يرقص طرباً .. رغم الآلام التي أيقظت إدراكه بتصلب فقرات عموده الفقري .. معلنة كبره وهرمه.
وعندما وصلت إلى بائع الفشار استدارت في ثقة ناحيته ولوحت له بكفها الصغير فرحة .. فما كان منه إلى أن رد لها التحية بيد وهو يسند ظهره باليد الأخرى ليستطيع النهوض من انحناءته .. امتزجت الابتسامة على وجهه بآثار آلام ظهره.
وأخذت تعدو نحوه فرحة وكلها ثقة .. وأخذ يتابعها بنظره .. وهو يلوم نفسه .. لماذا كان يسرق تلك الفرحة بالإصرار على عدم بعثرة حبات الفشار .. خائفاً عليها من السقوط .. مشفقاً على تلك المفاصل الصغيرة والرقيقة من التضرر من الارتطام بالأرض.
ولشدة عجبه فلقد استطاعت أن تعبر المسافة من عربة الفشار إلى الطاولة التي يجلس عليها راكضة عبر حديقة النادي .. بدون أن تتطاير تلك الحبات الشقية منها.
وضعت الكيس أمامه .. يكسو وجهها زهو وإحساس بالنصر.. مد يديه ليحتضنها .. فاجأته نخزه سريعة فى الجزء الأوسط من عموده الفقرى أربكت قدرته على توجيه يده فارتطمت يده بالكيس وأطاحت به .. فطار في الهواء متبعثراً .. ولكن هذه المرة بيده هو.
فاحتضنته وربتت عليه مواسية:
-         ما تزعلش يا بابا هاشتريلك واحد تاني .. ومش هازعل لو وقعته!
***

وليد الحداد
القاهرة في يونيو 2012

Sunday, June 9, 2013

سكان السلم

سكان السلم
في لحظة نادرة من اللحظات التي ينقشع فيها الضباب ولو جزئياً عن عقلي.. حاولت أن أتأمل حالي وكيف صرت إلى ما أنا عليه..كيف صرت أعاني من الوهن والتوهان والعجيب من الأعراض والعلل .. كل ما أتذكره أن الحكاية بدأت عندما قال لي مصطفى:
-         "أذهب للشيخ سليمان هتلاقي طلبك عنده".
لم أكن أتوقع أن تكون إجابته على سؤالي الذي اسررت له به أن مبتغايَّ عند "الشيخ فلان" .. فهذا الشيء أبعد ما يكون عن طريق الشيوخ .. وعلى الرغم من تناقض ما كان يحكيه عن الشيخ وكراماته وكلماته النابعه من عقله الراجح - التي هي منتهى مراد السائلين والحيارى - مع ما كنت أبحث عنه .. فإن ثقتي به وعلمي بصلة القربى بينه وبين "الشيخ سليمان" جعلاني أقطع التردد وأقرر الذهاب .. ربما ليس فقط للحصول على ما أبحث عنه ولكن أيضاً استجابة لرغبة غامضة في التعرف عليه لأستمع إليه وأنهل من فيض حكمته .. لا أعلم كيف سأوفق بين طلبي الحالي، وبين طلبي لبركته وسديد رأيه .. ولكن احتياجي للاثنين شديد.
ذهبت إليه في اليوم التالي بعد صلاة العصر .. دخلت الشارع الذي وصفه لي .. والذي أعلمه جيداً .. فهو أهدأ شارع في حينا .. ولم نجرؤ من قبل على اللعب فيه صغاراً أو التسكع فيه والوقوف على ناصيته شباباً .. وكلما توغلت في ذلك الشارع القصير يزداد الهدوء وتخفت الأصوات .. حتى وصلت إلى نهايته المسدودة بجدار كأنها نهاية العالم.
لم أتعرف على بيت الشيخ وحدي كما وعدني صديقي .. ثم رفعت نظري لعلي أميز نافذة مختلفة أو علامة تدلني على بيته ، دهشت لرؤية أحد العمائر تختلف تماماً عن جيرانها .. فهي اكبر في كل شيء .. النوافذ مرتفعة .. عدد طوابقها لم يتجاوز أربعة ولكنها تبدو شاهقة الارتفاع .. وبقايا الحائط السميك المشيد من الطوب الأحمر على بابها المتسع يحجب الضوء من التسلل إلى الداخل ، ويدل على تاريخ بناءها السابق على الحروب.
لاحظت أن النافذة الأخيرة اليمنى تتوافد عليها الطيور .. قد تكون الإشارة المطلوبة للدلالة على بيت الشيخ المبروك.
نظرت حولي لأبحث عن أي أحد لأتأكد منه .. حتى وجدت صبي المكوجي وهو يهم بصعود عمارة مجاورة .. فاستوقفته وسألته :
-         "هو ده بيت الشيخ ..."
وقبل أن أكمل سؤالي .. هز رأسه بالإيجاب .. ثم أنطلق لشأنه.
دخلت العمارة .. والتي كان مدخلها متسع ومكسو بالرخام .. ومرايا ضخمة تزين الجوانب مما يكسب المدخل أتساعاً على أتساعه .. كل ذلك في فخامة ونظافة غير معهودة في هذه المنطقة ، ورغم الإضاءة الخافتة استطعت أن أرى بوضوح أطباق صغيرة أنيقة نظيفة موضوعة على جانبي درجات السلم بنظام ، تحتوي على لبن وماء وطعام .. هالني العدد الكبير للقطط الذي يعج به المكان .. وطوابيرها الصاعدة والهابطة على السلالم في نظام ملفت ، والغريب أنه على الرغم من كثرتها فليس هناك أي أثر لفضلاتها ، ولا توجد أي رائحة منفرة ، أو أصوات مواء ، أو أي أصوات من تلك التي تصدر عن القطط اثناء لهوها أو عراكها ..!!
أخذني منظر هذا الدرج العجيب الذي يعج بكل أشكال وألوان وأحجام القطط فوجدتني قد وصلت للدور الأخير – رغم ارتفاعه – في وقت لم أشعر بمروره.
وعندما وصلت إلى باب الشقة التي قدرت أنها شقته .. ضغطت على زر الجرس وانتظرت .. فلا مجيب .. ضغطت عليه ثانية .. فإذا بسيدة تفتح باب الشقة المقابلة .. يكتسي وجهها بجمال هادئ وإن ظهر عليه أثر السنين .. بادرتني بالقول:
-         "الشيخ سليمان .. لسه في الجامع بيصلي ، أتفضل أنتظره على ما يخلص".
ترددت قليلاً .. فإذا بها تنهي ترددي فأمسكتني من يدي وجذبتني برفق إلى الداخل!
أجلستني على كرسي يلي الباب مباشرة وجلست ليس ببعيد عني .. وأخذت تحدثني كأنها تعرفني من زمن .. أو كأنها كانت تنتظرني لتروي لي ماذا فعل بها الزمان .. ثم أزاحت غطاء رأسها بيدها فإذا بشعر بني - لم يتسرب الشيب إليه بعد –  ينساب على كتفيها.
ثم قررت أن أشاركها غداءها .. فهي تريد أن تكافئني على زيارتي لها (حتى وإن كانت غير مقصودة) .. فقامت لتحضر الغداء وتركتني لحيرتي ودهشتي.
جلست آكل معها وأنا أنظر إليها مندهشاً من كل ما يحدث .. أقسمت لي أنها كانت تعلم أني سوف أدق بابها وأتغدى معها .. لذلك فلقد أعدت لي الطعام الذي أحبه !
ومالت عليَّ بجسدها متوددة إليَّ في الحديث:
-         "أحكيلي أنت عاوز الشيخ سليمان في أيه".
تلجلجت وترددت .. فكيف سأخبرها .. وبماذا سأخبرها .. وحاولت مداراة الأمر باختلاق قصة مناسبة حتى لا تفسد أسبابي (غير البريئة) تلك الجلسة والطعام الفاخر الذي لم يكن على البال ولا على الخاطر ، فتلعثمت وأخذت آتي بكلام من الشرق ومن الغرب غير مترابط وليس له معنى ، وهي تنظر لي في إنصات واهتمام وكأنها تستزيدني في الكلام وتنتظر ماذا بعد؟ ، ثم فاجأتني بسؤالها:
-         "أنت صاحب مصطفى .. مش كده؟ "
هززت رأسي مدهوشاً بأن "نعم"
صدمتني عندما أعلمتني انها تعرف مصطفى واني صديقه .. فهل طال علمها الدوائر المحيطة بالشيخ والدوائر التي حولها أيضاً؟ .. أزداد توتري مع إلحاحها وإصرارها .. فكيف يمكن أن اختلق قصة تداري سبب الزيارة.
وأنا في غمرة التفكير .. انتفضت وقفزت عليَّ وأخذت تقبلني بقوة وهي تمسك بذراعي وكأنها تشل حركتي حتى لا أقاومها أو أدفعها بعيداً عني، كانت تغتصبني بشفتيها العطشى الجائعة.
لم ابد أي ردة فعل من شدة المفاجأة .. ولم أملك سوى أن أراقبها وهي تتخلص من ملابسها .. مطبقة بشفتيها على شفتي وتصر على عدم افلاتهما .. بدأت أستجيب، وأبادلها تقبيلاً بتقبيل أحر وأقوى .. حتى وجدتها ترتجف .. ظننت انها رجفة استمتاع ولكني وجدتها تقفز مذعورة مبتعدة وهي تنظر إلى شيء ما خلفي في ذعر.
استدرت لأرى ما الذي أثار ذعرها لهذه الدرجة .. فانعقد لساني ووقف شعر رأسي وتشنجت كل اطرافي رعباً .. ولم تستجب اقدامي لرغبتي في القفز والهرب .. فإذا بقط أسود ضخم مخيف يتطاير الشرر من عينيه اللامعتين في الضوء الخافت .. يقف على ظهر الكرسي الذي أجلس عليه.
أسرعت إلى الباب راكضاً وأنا اتعثر .. قفز ورائي يطاردني.
تبخرت داخلي كل رغبة سواء في التقبيل أو في انتظار ومقابلة الشيخ سليمان.
وكدت أكثر من مرة أدهس القطط التي تملأ السلم وأنا اقفز هارباً متخطياً عدة درجات في الوثبة الواحدة .. وهو ورائي فلم أستطع الإفلات من مطاردته.
حتى أستوقفني وهو يمسك بذراعي بقوة لا تتناسب مع نحافته وضعف جسمه .. نظر إليَّ باسماً .. ولحيته البيضاء المنسدلة والواصلة إلى منتصف صدره تتحرك مع شفتيه وهو يتكلم .. يخرج الكلام من بين شفتيه دافئاً مطمئناً رغم حدة السؤال:
-         "أنت دخلت عندها ؟"
ثم أردف ضاحكاً ساخراً ، وقد تخلى القط الأسود عند مطاردتي عند إشارة من أطراف أصابعه:
-         "الحمد لله أنه لم يأكلك ، تعالى .. كويس أني لحقتك في الوقت المناسب".
أدخلني إلى شقته .. وهو يبتسم في خبث .. وقال وهو يغمز لي بعينه ويضغط على يدي:
-         "مصطفى كلمني وقالي على طلبك".
قادني لأجلس على كرسي خيزران في غرفة شبه خالية سوى من عدد قليل من الكراسي المتنوعة الأشكال .. الصفة الوحيدة المشتركة بينهم هي .. البساطة.
تركني وذهب إلى المطبخ .. وأثناء إعداده الشاي .. جلست أتأمل هذا البيت الغريب .. والمناقض تماما لفخامة شقة جارته .. فالشقة تكاد تخلو من الأثاث .. ومن الأجهزة الكهربائية .. ومن جميع أشكال الحياة ، ولكن قطع الأثاث القليلة مرتبة بنظام، كما يطغى على المكان جو من الطمأنينة والراحة ويجبر الأوصال على الاسترخاء المحبب.
جاء مسرعاً ممسكاً في يده كيس به حبوب (قد تكون قمحاً أو ذرة) ونثرها على حافة الشباك .. ثم عاد في خفة وأنحنى وتناول أطباق كانت موزعة على الأرض تشبه تلك المنتشرة على درجات السلم .. وذهب بها إلى المطبخ فنظفها وملأها ثم وضعها في مكانها وعاد إلى المطبخ ليأتي بالشاي .. وفي لحظة غيابه تلك ظهر عدد من القطط لم أر لها مثيلاً .. ضخمة .. كثيفة الشعر .. جميلة الوجوه .. يتقدمهم قط ابيض هو أجملهم وأضخمهم وأكثفهم شعراً .. توقف أمامي ونظر في عيني مباشرة متأملاً أياي .. ثم توجه إلى الصحون تتبعه القطط الأخرى ، إلا واحدة رمادية اللون ظلت تتفحصني من شعر رأسي إلى أخمص قدمي .. وتقدمت مني في بطء.
أفزعتني تلك النظرات لدرجة أني تمسكت بالكرسي ورفعت قدمي .. في نفس اللحظة التي دخل فيها سليمان بحركته السريعة الخفيفة مبتسماً وضاحكاً .. قائلاً:
-         "ما تخافش .. طالما بتسمع الكلام .. وماشي على العهد .. لن يؤذوك ".
ثم أنقض على كبيرهم وأمسك به من فراء ظهره .. وللعجب فإن القط رغم مظهره الباعث على الرهبة .. أستسلم لقبضة سليمان.
في الوقت الذي قفزت فيه القطة الرمادية إلى حرف الشباك والذي كنت أجلس بجواره .. ومدت رأسها تتشمم كل جزء من جسدي أمكنها الوصول إليه بأنفها.
وجذب الشيخ كرسي وجلس عليه واضعاً رجل على رجل . . وضع القط على حجره وأخذ يمسح على ظهره .. كان يضحك عليَّ لأني مازلت متمسكاً بالكرسي ورافعاً قدمي من على الأرض خوفاً من الهررة.
-         "مصطفى قالي على طلبك .. بس ده مش حل .. يعني لما تحشش وتنسطل المشاكل هتروح فين؟"
ثم قهقه وأردف بصوت دافئ :
-         "ياما حششنا .. لكن يا ترى مشاكلنا اتحلت ؟ .. أبداً ..!!".
وكان وهو يحدثني يمسك برأس القط القابع في حجره من آن لأخر ويوجه نظره تجاهي ، كأنه يأمره بأن يتأملني ويحفظ ملامح وجهي.
أخذنا الحديث .. ومن حلاوة حديثة وعذوبته لم أشعر بالوقت .. فلقد استأنست بصحبته وأنست بالقطة الرمادية التي ظلت جالسة على مقربة مني تمد أنفها من حين لآخر لتعيد تشممي ومداعبتي .. حتى وجدته انتصب واقفاً .. قاذفاً القط على الأرض .. ماداً يده ليسلم عليَّ معلناً انتهاء اللقاء .. ثم أقترب مني واحتضنني وظل محتضني لبرهة ومسح على ظهري حتى زال كل ضيق كنت اشعر به .. ودعني إلى الباب هو وقططه .. وحملني السلامات إلى مصطفى ودعاني لزيارته مجدداً في أي وقت أشاء .. وقال لي عبارة لم أتبين معناها:
-         "بس أبقى خد بالك وأنت طالع ونازل على السلم أحسن تتعثر في حاجة على السلم .. لأن دول زعلهم وحش قوي.. !! "
نزلت وأنا أتحسس طريقي بين القطط التي تحتل السلم حتى لا أدهس أحداها .. وفي ظلام وعتمة السلم أشعر ببعضها تتعمد الدخول بين قدمي والتمسح بي ، وتتكاثر حولي كلما نزلت درجة .. فتضطرب خطواتي حتى أكاد اتعثر وأقع .. ويقشعر بدني خوفاً وذعراً.
وصلت إلى باب العمارة وقد وصلت سرعة ضربات قلبي إلى مداها وغطى العرق البارد جبهتي ووجهي ، وأحسست كأنه قد مضى عليا دهراً لأجتاز هذا السلم.
تنفست الصعداء وأنا أخرج من البوابة الكبيرة ونظرت خلفي معتقداً أنني لن أكرر هذه التجربة مرة أخرى .. ومشيت في طريق عودتي بخطى متسارعة وكأني أهرب من أشباح تطاردني خرجت تتبعني حتى إني لم أجرؤ على النظر خلفي.
مرت أيام أو اسابيع نسيت فيها وقائع تلك الزيارة .. ووجدت صدري يضيق فجال بخاطري أن أزور الشيخ سليمان لعلي أجد عنده ما يزيل ضيق صدري .. ولا أدري على وجه اليقين هل نفسي حدثتني بالعودة لزيارة الشيخ .. أم لدق باب جارته .. لعل قطها الأسود يكون غير موجود هذه المرة؟
وجدت أقدامي بلا أرادة مني تقودني إلى الشارع السد.
وعندما دخلت إلى العمارة ، وجدتها أكثر هدوءاً من المرة السابقة .. أطباق القطط كما هي في مكانها ولكنها ليست نظيفة كسابق عهدها .. معظمها فارغ .. والقطط لا تكاد تتحرك .. وعندما رأتني ألتفت حولي كأنها ترحب بي مصدرة مواءً خافتاً مكتوماً كأنها أغنية جنائزية.
صعدت السلم .. كان معتماً أكثر من المرة السابقة .. رغم أنني أتيت ظهراً.
وصلت إلى باب شقته والقطط تتبعني وتحيط بي.. ضغطت على زر الجرس .. لم أسمع صوت الجرس يرن داخل شقته .. فضغطت عليه ثانية .. ثم طرقت الباب بأطراف أصابعي .. فأصابني منها بعض التراب وخيوط العنكبوت .. تأملت ما علق بأصابعي منها وأنا متعجب فلقد كان بيته على بساطته نظيفاً ولم يكن الباب هكذا من قبل.
وعندما سمعت حركة خلف الباب المقابل له تذكرت القط الأسود .. فتغلب خوفي على رغبتي في الدخول فأسرعت بالنزول .. فإذا بنسمة باردة تلفح وجهي .. ووجدت سليمان ينحني مبتسماً ولحيته الطويلة تتراقص مع حركات رأسه .. يجمع الأطباق من على درجات السلم .. وعندما رآني أبتسم ورحب بي وأمسكني من ذراعي .. وجدت ملمس يده على ذراعي بارداً .. وقال لي ضاحكاً:
-         "لو كنت دخلت عندها النهاردة .. كان قطعك.. ولا حد كان قدر يخلصك منه..!!"
ثم أردف وهو يمسح على ظهري في حنان:
-         "لن أستطيع الجلوس معك اليوم لأني مسافر دلوقتي إن شاء الله نعوضها مرة ثانية."
شعرت ببرودة تسري في جسدي كله اصلها موضع مسح يده.
شكرته على اهتمامه واستدرت نازلاً على السلم ، وبعد أن وصلت للمنتصف تقريباً إذا بالقط الأسود الضخم يقف منتصباً على حرف درابزين السلم يرمقني بعينين يتطاير منهما الشرر ويزمجر وهو يهز ذيله غاضباً ومتأهباً للانقضاض عليَّ .. بدا وكأنه يتضخم أمامي .. تجمدت أقدامي من تحتي ولم تستطع أن تحملني .. حاولت ابعاده بيدي .. فقفز في الهواء وضربني بمخالبه ضربة أصابت وجهي ومزقته .. ظهرت في تلك اللحظة قطط سليمان يتقدمها القط الأبيض آتياً من خلفي تتبعه القطة الرمادية وهم متحفزون .. فزمجر وأومأ للقط الوحش برأسه فسكت وصرف عينه عني كأنه يسمح لي بالهرب .. فُكت عقدة ساقيَّ والشلل الذي أصابهما فقفزت مرعوباً غير مبالي بموقع قدمي وما قد أدهسه.
خرجت من البيت عاقد العزم على عدم العودة مرة أخرى تحت إلحاح أي رغبة أو شهوة ، ولم أتحرج من الركض مسرعاً مبتعداً.
وفي المساء ذهبت لمقابلة مصطفى على المقهى .. لم أكن قابلته منذ اكثر من اسبوع .. كان ظاهراً عليه الحزن الشديد والهم العميق .. يبدو أنه لم يحلق ذقنه أو يغسل وجهه منذ أيام .. فبادرته بالسؤال عن سبب حزنه والحال المزرية التي هو عليها .. أجابني:
-         "الشيخ سليمان .. تعيش انت من أسبوع ."
لم أعقب واستدرت عائدا مذهولا .. لم أستطع أن أفكر أو أتساءل .. حتى وصلت إلى منزلي .. وعندما هممت بصعود الدرج تنبهت إلى أن هناك كائنات تسكن السلم .. هل كانوا هناك من قبل؟ أم أنهم قد حضروا الآن فقط؟
وللعجب فأنهم يشبهون تلك التي هربت منها في منزل سليمان .. ثم أخذت أتأملهم:
-         "نعم أذكر هذا القط المرقط باللون المشمشي في الأسود .. وأذكر هذا القط قصير الأرجل ذو الذيل كثيف الشعر .. وهذا .. وهذا، ثم تحجرت مقلتاي عندما لمحته .. !! أيعقل أن يكون هو؟ أهذا هو الأسود ؟ هل تبعني إلى هنا ؟ "
تسارعت خطواتي حتى استحالت إلى ركض متسلقاً السلم بكل ما أوتيت من قوة .. وفتحت الباب بصعوبة بالغة .. فيداي ترتعشان وعيناي تتابع الحركة التي نشطت اسفل قدمي .. دخلت شقتي غير مصدق أني قد نجوت من هذا الكابوس .. وتأكدت مراراً وتكراراً من أني قد أحكمت إغلاق الباب، وأن أي منها لم يتمكن من الدخول ورائي.
سانداً ظهري إلى الباب .. مددت يدي لأضيء نور الصالة .. في هذا الجزء من الثانية خيل إليَّ ان هناك خيالات تمرق من امامي .. تسمرت في مكاني ولم أستطع ان أدير عيني لأستيقن مدى حقيقة هذا الخيال.
حاولت تهدئة نفسي .. وأخذت أحدثها أن هذا خيال عارض تحت تأثير أحداث اليوم غير المنطقية .. ثم أخذت أتسلل متفقداً غرف المنزل في حذر وأضيء الأنوار غرفة تلو الأخرى حتى أتأكد أن ما ترائى لي هو محض اوهام .. وعندما تأكدت من خلو المنزل من أي مخلوقات حية خلافي .. تنفست الصعداء.
وقفت تحت دش الماء الساخن لأزيل عن رأسي كل أثر للخيالات والأوهام .. ولكن لم تفلح تلك الحيلة أو غيرها .. وظلت رأسي تتماوجها الأفكار والتساؤلات التي ليس لها اجابة أو تفسير .. !!
أطل الصباح دون أن أنال قسطاً كافياً من النوم .. فهي أطارت النوم من عيني وطاردتني في كوابيسي عندما غفلت عيني تعباً .. فأستفيق ذعراً لأجدها ماثلة امامي ، وكأنه أسوء كابوس يمكن أن يحدث فهي تطاردني يقظةً ومناماً.
وإن كانت أطيافهم تطاردني داخل البيت (ظناً) فكيف سأتخطاهم لأذهب لعملي .. وكيف سأتمكن من الخروج .. فهم في انتظاري خارجاً (يقيناً) ؟
توجهت إلى الباب وظللت واقفاً أمامه متردداً .. ولكن لا مناص من المواجهة.
فتحت الباب .. كان المنظر باعثاً على الرهبة .. فقد تجمعوا حول بابي دون كل الابواب وجلسوا ينتظرونني.
فتحت الباب بحرص شديد .. تحركت ببطء وهم يتبعونني ونزلت السلم وهم يقتربون مني ويلتصقون بقدمي فتزداد حركتي بطء .. حتى بلغت أسفل السلم بصعوبة، ولم يتركوني إلا عند عتبة باب العمارة .. انطلقت إلى عملي وقد استرحت منهم قليلاً.
لاحظت أن اعداد القطط تتزايد في كل مرة أنزل أو أصعد فيها السلم .. !! لم أصدق نفسي في بادئ الأمر .. حتى تأكد لي بما لا يدع مجالاً للشك أنها تتزايد بالفعل .. وزيادتها ليست توالداً .. فالزيادة قطط بالغة والأعجب أنه ليس هناك تدرج في أعمار القطط فليس منها الصغير كما أن ليس منها المسن .. كما أن الزيادة ليست من قطط الشارع التي أعرفها جيدا .. والتي امتنعت عن دخول البيت منذ ظهور السكان الجدد ..!!
ثم تراءى لي أن أؤاخيهم .. وتذكرت كلمة الشيخ سليمان " طالما ماشي على العهد لن يؤذوك ..!!"
هل كانت تلك الزيارة ليست برغبة مني ولكنها بدعوة خفية من سليمان ليسلم العهد بعد مماته لمن يستطيع رعايته؟
دخلت على الفور إلى المطبخ وجمعت كل الأوعية التي تصلح للمهمة .. وملأتها بالماء واللبن وكل الأطعمة التي احتواها المطبخ .. وفكرت ألا أضع الطعام قريبا من بابي حتى أبعدهم عني ولو لحين.
راعيت العهد حسب علمي المحدود .. فصرت أداوم على تنظيف الآنية ووضع الطعام والماء واللبن .. ولكنهم لم يراعوا أي عهد - أو لعلي لم أكن مؤهلاً لتلك العلاقة - فتزايدت الخيالات والكوابيس.
كنت أذهب وأعود من عملي ساهداً من الأرق وقلة النوم .. حتى أصابني الوهن وتاه تركيزي وصار عقلي على المحك .. فجاء اليوم الذي وقع فيه المحظور .. فلم أستطع ان أتبين ما تحت قدمي ودست في بطن احداها فأنشبت مخالبها في ساقي وهي تصرخ مدافعة عن حقها في الحياة ثم أنتفضت انتفاضة قوية تلتها ارتخاءه لكامل اوصالها مفضية لكل أثر للحياة.. تذكرت قول الشيخ: "أبقى خذ بالك وأنت طالع ونازل السلم أحسن تتعثر فيهم لأن دول زعلهم وحش قوي ..!!"
ظللت متفكراً فيما يمكن أن يصيبني من جراء فعلتي .. حتى استسلمت للتعب وغفلت عيناي .. متوقعاً سيء الأحلام كالعادة .. غفلت عيني ولكني كنت في كامل وعيي ليأتى كائنين غير مرئيين فشدا وثاقي استعدادا لذبحي .. حاولت الصراخ فلم أستطع .. حاولت المقاومة .. ولكني لم أتمكن.
استفقت وأنا أشعر بأثر نصل السكين على حنجرتي .. امسكت برقبتي وأنا غير مصدق أني قد نجوت .. فأنا لا محالة لست بواهم وليس بحلم .. انهم ينتوون ذبحي ..!!
قمت لأغسل وجهي لعلي أفيق من هذا الكابوس المستمر ليل نهار .. وأخذت أحدث نفسي:
-         "إلى متى سأظل سجين هذا الخوف .. إلى متى سأظل سجين تلك الزيارة المشؤومة لبيت الشيخ سليمان".
خطر على بالي الذهاب إلى مصطفى .. فهو السبب المباشر فيما حل بي .. وعليه ان يجد لي الحل .. ذهبت إلى المقهى لأبحث عنه .. فإذا بالمقهى خاوياً على عروشه .. إنساني التفكير ما نزلت من أجله وبحثي عن مصطفى .. فأخذت أسير في الشوارع على غير هدى .. وكلما لمحت قطاً تجنبته وتركت له جانب الشارع لأسير على الجانب الآخر.
ظللت سائراً لا أريد العودة إلى المنزل .. بل أخافها .. حتى جذب انتباهي نافذة محل يعرض أسلحة وسكاكين .. فبرقت في رأسي الفكرة.
فاشتريت سكيناً .. وبمجرد دخولي إلى مدخل البيت .. استجمعت شجاعتي وقوتي .. وأنقضضت على الوحش الأسود من بينهم ونحرته بغل وقسوة غير عابئ بمخالبه التي نشبها في يدي والتي مزقت اجزاء من جسدي .. وللعجب فقد هرع القط الأبيض من بين جيش القطط المحتشدة محاولاً إنقاذ الوحش الأسود .. فأمسكت به هو الأخر وجززت عنقه على مرأى ومسمع من عشيرتهم .. وكان لهم خوار عجيب اثناء انسلال روحيهما من جسديهما وانتظرت حتى انتفضت السيقان في تعبير عن تمام انقضاء الحياة الأولى .. ثم جال في خاطري انهم اصحاب سبع حياوات .. ولن أنتظر حتى يهبوا من جديد فينتقموا مني شر انتقام .. لابد من تدبر امرهما للقضاء على كل الحيوات السبع مرة واحدة .. حرت في امري قليلاً .. وبعد تفكير قررت أكلهما ..!!
قمت بسلخهما امام باقي العشيرة .. التي تتابع الحدث مفجوعة وقد أخذها الذهول.
تناولت هاتفي المحمول .. أتصلت بمصطفى وبشلة القهوة واحداً واحداً .. وألححت عليهم في العزومة وأصررت على مجيئهم:
-         العزومة النهاردة ملوكي .. ملوخية بالأرانب ..!!
وأنا اودعهم فتحت الباب بحذر خفي .. اختفت القطط تماما .. لم تعد من يومها .. ولكن بدأت زيارات من نوع آخر ..!!
***
وليد الحداد

القاهرة في فبراير 2013