Sunday, June 9, 2013

سكان السلم

سكان السلم
في لحظة نادرة من اللحظات التي ينقشع فيها الضباب ولو جزئياً عن عقلي.. حاولت أن أتأمل حالي وكيف صرت إلى ما أنا عليه..كيف صرت أعاني من الوهن والتوهان والعجيب من الأعراض والعلل .. كل ما أتذكره أن الحكاية بدأت عندما قال لي مصطفى:
-         "أذهب للشيخ سليمان هتلاقي طلبك عنده".
لم أكن أتوقع أن تكون إجابته على سؤالي الذي اسررت له به أن مبتغايَّ عند "الشيخ فلان" .. فهذا الشيء أبعد ما يكون عن طريق الشيوخ .. وعلى الرغم من تناقض ما كان يحكيه عن الشيخ وكراماته وكلماته النابعه من عقله الراجح - التي هي منتهى مراد السائلين والحيارى - مع ما كنت أبحث عنه .. فإن ثقتي به وعلمي بصلة القربى بينه وبين "الشيخ سليمان" جعلاني أقطع التردد وأقرر الذهاب .. ربما ليس فقط للحصول على ما أبحث عنه ولكن أيضاً استجابة لرغبة غامضة في التعرف عليه لأستمع إليه وأنهل من فيض حكمته .. لا أعلم كيف سأوفق بين طلبي الحالي، وبين طلبي لبركته وسديد رأيه .. ولكن احتياجي للاثنين شديد.
ذهبت إليه في اليوم التالي بعد صلاة العصر .. دخلت الشارع الذي وصفه لي .. والذي أعلمه جيداً .. فهو أهدأ شارع في حينا .. ولم نجرؤ من قبل على اللعب فيه صغاراً أو التسكع فيه والوقوف على ناصيته شباباً .. وكلما توغلت في ذلك الشارع القصير يزداد الهدوء وتخفت الأصوات .. حتى وصلت إلى نهايته المسدودة بجدار كأنها نهاية العالم.
لم أتعرف على بيت الشيخ وحدي كما وعدني صديقي .. ثم رفعت نظري لعلي أميز نافذة مختلفة أو علامة تدلني على بيته ، دهشت لرؤية أحد العمائر تختلف تماماً عن جيرانها .. فهي اكبر في كل شيء .. النوافذ مرتفعة .. عدد طوابقها لم يتجاوز أربعة ولكنها تبدو شاهقة الارتفاع .. وبقايا الحائط السميك المشيد من الطوب الأحمر على بابها المتسع يحجب الضوء من التسلل إلى الداخل ، ويدل على تاريخ بناءها السابق على الحروب.
لاحظت أن النافذة الأخيرة اليمنى تتوافد عليها الطيور .. قد تكون الإشارة المطلوبة للدلالة على بيت الشيخ المبروك.
نظرت حولي لأبحث عن أي أحد لأتأكد منه .. حتى وجدت صبي المكوجي وهو يهم بصعود عمارة مجاورة .. فاستوقفته وسألته :
-         "هو ده بيت الشيخ ..."
وقبل أن أكمل سؤالي .. هز رأسه بالإيجاب .. ثم أنطلق لشأنه.
دخلت العمارة .. والتي كان مدخلها متسع ومكسو بالرخام .. ومرايا ضخمة تزين الجوانب مما يكسب المدخل أتساعاً على أتساعه .. كل ذلك في فخامة ونظافة غير معهودة في هذه المنطقة ، ورغم الإضاءة الخافتة استطعت أن أرى بوضوح أطباق صغيرة أنيقة نظيفة موضوعة على جانبي درجات السلم بنظام ، تحتوي على لبن وماء وطعام .. هالني العدد الكبير للقطط الذي يعج به المكان .. وطوابيرها الصاعدة والهابطة على السلالم في نظام ملفت ، والغريب أنه على الرغم من كثرتها فليس هناك أي أثر لفضلاتها ، ولا توجد أي رائحة منفرة ، أو أصوات مواء ، أو أي أصوات من تلك التي تصدر عن القطط اثناء لهوها أو عراكها ..!!
أخذني منظر هذا الدرج العجيب الذي يعج بكل أشكال وألوان وأحجام القطط فوجدتني قد وصلت للدور الأخير – رغم ارتفاعه – في وقت لم أشعر بمروره.
وعندما وصلت إلى باب الشقة التي قدرت أنها شقته .. ضغطت على زر الجرس وانتظرت .. فلا مجيب .. ضغطت عليه ثانية .. فإذا بسيدة تفتح باب الشقة المقابلة .. يكتسي وجهها بجمال هادئ وإن ظهر عليه أثر السنين .. بادرتني بالقول:
-         "الشيخ سليمان .. لسه في الجامع بيصلي ، أتفضل أنتظره على ما يخلص".
ترددت قليلاً .. فإذا بها تنهي ترددي فأمسكتني من يدي وجذبتني برفق إلى الداخل!
أجلستني على كرسي يلي الباب مباشرة وجلست ليس ببعيد عني .. وأخذت تحدثني كأنها تعرفني من زمن .. أو كأنها كانت تنتظرني لتروي لي ماذا فعل بها الزمان .. ثم أزاحت غطاء رأسها بيدها فإذا بشعر بني - لم يتسرب الشيب إليه بعد –  ينساب على كتفيها.
ثم قررت أن أشاركها غداءها .. فهي تريد أن تكافئني على زيارتي لها (حتى وإن كانت غير مقصودة) .. فقامت لتحضر الغداء وتركتني لحيرتي ودهشتي.
جلست آكل معها وأنا أنظر إليها مندهشاً من كل ما يحدث .. أقسمت لي أنها كانت تعلم أني سوف أدق بابها وأتغدى معها .. لذلك فلقد أعدت لي الطعام الذي أحبه !
ومالت عليَّ بجسدها متوددة إليَّ في الحديث:
-         "أحكيلي أنت عاوز الشيخ سليمان في أيه".
تلجلجت وترددت .. فكيف سأخبرها .. وبماذا سأخبرها .. وحاولت مداراة الأمر باختلاق قصة مناسبة حتى لا تفسد أسبابي (غير البريئة) تلك الجلسة والطعام الفاخر الذي لم يكن على البال ولا على الخاطر ، فتلعثمت وأخذت آتي بكلام من الشرق ومن الغرب غير مترابط وليس له معنى ، وهي تنظر لي في إنصات واهتمام وكأنها تستزيدني في الكلام وتنتظر ماذا بعد؟ ، ثم فاجأتني بسؤالها:
-         "أنت صاحب مصطفى .. مش كده؟ "
هززت رأسي مدهوشاً بأن "نعم"
صدمتني عندما أعلمتني انها تعرف مصطفى واني صديقه .. فهل طال علمها الدوائر المحيطة بالشيخ والدوائر التي حولها أيضاً؟ .. أزداد توتري مع إلحاحها وإصرارها .. فكيف يمكن أن اختلق قصة تداري سبب الزيارة.
وأنا في غمرة التفكير .. انتفضت وقفزت عليَّ وأخذت تقبلني بقوة وهي تمسك بذراعي وكأنها تشل حركتي حتى لا أقاومها أو أدفعها بعيداً عني، كانت تغتصبني بشفتيها العطشى الجائعة.
لم ابد أي ردة فعل من شدة المفاجأة .. ولم أملك سوى أن أراقبها وهي تتخلص من ملابسها .. مطبقة بشفتيها على شفتي وتصر على عدم افلاتهما .. بدأت أستجيب، وأبادلها تقبيلاً بتقبيل أحر وأقوى .. حتى وجدتها ترتجف .. ظننت انها رجفة استمتاع ولكني وجدتها تقفز مذعورة مبتعدة وهي تنظر إلى شيء ما خلفي في ذعر.
استدرت لأرى ما الذي أثار ذعرها لهذه الدرجة .. فانعقد لساني ووقف شعر رأسي وتشنجت كل اطرافي رعباً .. ولم تستجب اقدامي لرغبتي في القفز والهرب .. فإذا بقط أسود ضخم مخيف يتطاير الشرر من عينيه اللامعتين في الضوء الخافت .. يقف على ظهر الكرسي الذي أجلس عليه.
أسرعت إلى الباب راكضاً وأنا اتعثر .. قفز ورائي يطاردني.
تبخرت داخلي كل رغبة سواء في التقبيل أو في انتظار ومقابلة الشيخ سليمان.
وكدت أكثر من مرة أدهس القطط التي تملأ السلم وأنا اقفز هارباً متخطياً عدة درجات في الوثبة الواحدة .. وهو ورائي فلم أستطع الإفلات من مطاردته.
حتى أستوقفني وهو يمسك بذراعي بقوة لا تتناسب مع نحافته وضعف جسمه .. نظر إليَّ باسماً .. ولحيته البيضاء المنسدلة والواصلة إلى منتصف صدره تتحرك مع شفتيه وهو يتكلم .. يخرج الكلام من بين شفتيه دافئاً مطمئناً رغم حدة السؤال:
-         "أنت دخلت عندها ؟"
ثم أردف ضاحكاً ساخراً ، وقد تخلى القط الأسود عند مطاردتي عند إشارة من أطراف أصابعه:
-         "الحمد لله أنه لم يأكلك ، تعالى .. كويس أني لحقتك في الوقت المناسب".
أدخلني إلى شقته .. وهو يبتسم في خبث .. وقال وهو يغمز لي بعينه ويضغط على يدي:
-         "مصطفى كلمني وقالي على طلبك".
قادني لأجلس على كرسي خيزران في غرفة شبه خالية سوى من عدد قليل من الكراسي المتنوعة الأشكال .. الصفة الوحيدة المشتركة بينهم هي .. البساطة.
تركني وذهب إلى المطبخ .. وأثناء إعداده الشاي .. جلست أتأمل هذا البيت الغريب .. والمناقض تماما لفخامة شقة جارته .. فالشقة تكاد تخلو من الأثاث .. ومن الأجهزة الكهربائية .. ومن جميع أشكال الحياة ، ولكن قطع الأثاث القليلة مرتبة بنظام، كما يطغى على المكان جو من الطمأنينة والراحة ويجبر الأوصال على الاسترخاء المحبب.
جاء مسرعاً ممسكاً في يده كيس به حبوب (قد تكون قمحاً أو ذرة) ونثرها على حافة الشباك .. ثم عاد في خفة وأنحنى وتناول أطباق كانت موزعة على الأرض تشبه تلك المنتشرة على درجات السلم .. وذهب بها إلى المطبخ فنظفها وملأها ثم وضعها في مكانها وعاد إلى المطبخ ليأتي بالشاي .. وفي لحظة غيابه تلك ظهر عدد من القطط لم أر لها مثيلاً .. ضخمة .. كثيفة الشعر .. جميلة الوجوه .. يتقدمهم قط ابيض هو أجملهم وأضخمهم وأكثفهم شعراً .. توقف أمامي ونظر في عيني مباشرة متأملاً أياي .. ثم توجه إلى الصحون تتبعه القطط الأخرى ، إلا واحدة رمادية اللون ظلت تتفحصني من شعر رأسي إلى أخمص قدمي .. وتقدمت مني في بطء.
أفزعتني تلك النظرات لدرجة أني تمسكت بالكرسي ورفعت قدمي .. في نفس اللحظة التي دخل فيها سليمان بحركته السريعة الخفيفة مبتسماً وضاحكاً .. قائلاً:
-         "ما تخافش .. طالما بتسمع الكلام .. وماشي على العهد .. لن يؤذوك ".
ثم أنقض على كبيرهم وأمسك به من فراء ظهره .. وللعجب فإن القط رغم مظهره الباعث على الرهبة .. أستسلم لقبضة سليمان.
في الوقت الذي قفزت فيه القطة الرمادية إلى حرف الشباك والذي كنت أجلس بجواره .. ومدت رأسها تتشمم كل جزء من جسدي أمكنها الوصول إليه بأنفها.
وجذب الشيخ كرسي وجلس عليه واضعاً رجل على رجل . . وضع القط على حجره وأخذ يمسح على ظهره .. كان يضحك عليَّ لأني مازلت متمسكاً بالكرسي ورافعاً قدمي من على الأرض خوفاً من الهررة.
-         "مصطفى قالي على طلبك .. بس ده مش حل .. يعني لما تحشش وتنسطل المشاكل هتروح فين؟"
ثم قهقه وأردف بصوت دافئ :
-         "ياما حششنا .. لكن يا ترى مشاكلنا اتحلت ؟ .. أبداً ..!!".
وكان وهو يحدثني يمسك برأس القط القابع في حجره من آن لأخر ويوجه نظره تجاهي ، كأنه يأمره بأن يتأملني ويحفظ ملامح وجهي.
أخذنا الحديث .. ومن حلاوة حديثة وعذوبته لم أشعر بالوقت .. فلقد استأنست بصحبته وأنست بالقطة الرمادية التي ظلت جالسة على مقربة مني تمد أنفها من حين لآخر لتعيد تشممي ومداعبتي .. حتى وجدته انتصب واقفاً .. قاذفاً القط على الأرض .. ماداً يده ليسلم عليَّ معلناً انتهاء اللقاء .. ثم أقترب مني واحتضنني وظل محتضني لبرهة ومسح على ظهري حتى زال كل ضيق كنت اشعر به .. ودعني إلى الباب هو وقططه .. وحملني السلامات إلى مصطفى ودعاني لزيارته مجدداً في أي وقت أشاء .. وقال لي عبارة لم أتبين معناها:
-         "بس أبقى خد بالك وأنت طالع ونازل على السلم أحسن تتعثر في حاجة على السلم .. لأن دول زعلهم وحش قوي.. !! "
نزلت وأنا أتحسس طريقي بين القطط التي تحتل السلم حتى لا أدهس أحداها .. وفي ظلام وعتمة السلم أشعر ببعضها تتعمد الدخول بين قدمي والتمسح بي ، وتتكاثر حولي كلما نزلت درجة .. فتضطرب خطواتي حتى أكاد اتعثر وأقع .. ويقشعر بدني خوفاً وذعراً.
وصلت إلى باب العمارة وقد وصلت سرعة ضربات قلبي إلى مداها وغطى العرق البارد جبهتي ووجهي ، وأحسست كأنه قد مضى عليا دهراً لأجتاز هذا السلم.
تنفست الصعداء وأنا أخرج من البوابة الكبيرة ونظرت خلفي معتقداً أنني لن أكرر هذه التجربة مرة أخرى .. ومشيت في طريق عودتي بخطى متسارعة وكأني أهرب من أشباح تطاردني خرجت تتبعني حتى إني لم أجرؤ على النظر خلفي.
مرت أيام أو اسابيع نسيت فيها وقائع تلك الزيارة .. ووجدت صدري يضيق فجال بخاطري أن أزور الشيخ سليمان لعلي أجد عنده ما يزيل ضيق صدري .. ولا أدري على وجه اليقين هل نفسي حدثتني بالعودة لزيارة الشيخ .. أم لدق باب جارته .. لعل قطها الأسود يكون غير موجود هذه المرة؟
وجدت أقدامي بلا أرادة مني تقودني إلى الشارع السد.
وعندما دخلت إلى العمارة ، وجدتها أكثر هدوءاً من المرة السابقة .. أطباق القطط كما هي في مكانها ولكنها ليست نظيفة كسابق عهدها .. معظمها فارغ .. والقطط لا تكاد تتحرك .. وعندما رأتني ألتفت حولي كأنها ترحب بي مصدرة مواءً خافتاً مكتوماً كأنها أغنية جنائزية.
صعدت السلم .. كان معتماً أكثر من المرة السابقة .. رغم أنني أتيت ظهراً.
وصلت إلى باب شقته والقطط تتبعني وتحيط بي.. ضغطت على زر الجرس .. لم أسمع صوت الجرس يرن داخل شقته .. فضغطت عليه ثانية .. ثم طرقت الباب بأطراف أصابعي .. فأصابني منها بعض التراب وخيوط العنكبوت .. تأملت ما علق بأصابعي منها وأنا متعجب فلقد كان بيته على بساطته نظيفاً ولم يكن الباب هكذا من قبل.
وعندما سمعت حركة خلف الباب المقابل له تذكرت القط الأسود .. فتغلب خوفي على رغبتي في الدخول فأسرعت بالنزول .. فإذا بنسمة باردة تلفح وجهي .. ووجدت سليمان ينحني مبتسماً ولحيته الطويلة تتراقص مع حركات رأسه .. يجمع الأطباق من على درجات السلم .. وعندما رآني أبتسم ورحب بي وأمسكني من ذراعي .. وجدت ملمس يده على ذراعي بارداً .. وقال لي ضاحكاً:
-         "لو كنت دخلت عندها النهاردة .. كان قطعك.. ولا حد كان قدر يخلصك منه..!!"
ثم أردف وهو يمسح على ظهري في حنان:
-         "لن أستطيع الجلوس معك اليوم لأني مسافر دلوقتي إن شاء الله نعوضها مرة ثانية."
شعرت ببرودة تسري في جسدي كله اصلها موضع مسح يده.
شكرته على اهتمامه واستدرت نازلاً على السلم ، وبعد أن وصلت للمنتصف تقريباً إذا بالقط الأسود الضخم يقف منتصباً على حرف درابزين السلم يرمقني بعينين يتطاير منهما الشرر ويزمجر وهو يهز ذيله غاضباً ومتأهباً للانقضاض عليَّ .. بدا وكأنه يتضخم أمامي .. تجمدت أقدامي من تحتي ولم تستطع أن تحملني .. حاولت ابعاده بيدي .. فقفز في الهواء وضربني بمخالبه ضربة أصابت وجهي ومزقته .. ظهرت في تلك اللحظة قطط سليمان يتقدمها القط الأبيض آتياً من خلفي تتبعه القطة الرمادية وهم متحفزون .. فزمجر وأومأ للقط الوحش برأسه فسكت وصرف عينه عني كأنه يسمح لي بالهرب .. فُكت عقدة ساقيَّ والشلل الذي أصابهما فقفزت مرعوباً غير مبالي بموقع قدمي وما قد أدهسه.
خرجت من البيت عاقد العزم على عدم العودة مرة أخرى تحت إلحاح أي رغبة أو شهوة ، ولم أتحرج من الركض مسرعاً مبتعداً.
وفي المساء ذهبت لمقابلة مصطفى على المقهى .. لم أكن قابلته منذ اكثر من اسبوع .. كان ظاهراً عليه الحزن الشديد والهم العميق .. يبدو أنه لم يحلق ذقنه أو يغسل وجهه منذ أيام .. فبادرته بالسؤال عن سبب حزنه والحال المزرية التي هو عليها .. أجابني:
-         "الشيخ سليمان .. تعيش انت من أسبوع ."
لم أعقب واستدرت عائدا مذهولا .. لم أستطع أن أفكر أو أتساءل .. حتى وصلت إلى منزلي .. وعندما هممت بصعود الدرج تنبهت إلى أن هناك كائنات تسكن السلم .. هل كانوا هناك من قبل؟ أم أنهم قد حضروا الآن فقط؟
وللعجب فأنهم يشبهون تلك التي هربت منها في منزل سليمان .. ثم أخذت أتأملهم:
-         "نعم أذكر هذا القط المرقط باللون المشمشي في الأسود .. وأذكر هذا القط قصير الأرجل ذو الذيل كثيف الشعر .. وهذا .. وهذا، ثم تحجرت مقلتاي عندما لمحته .. !! أيعقل أن يكون هو؟ أهذا هو الأسود ؟ هل تبعني إلى هنا ؟ "
تسارعت خطواتي حتى استحالت إلى ركض متسلقاً السلم بكل ما أوتيت من قوة .. وفتحت الباب بصعوبة بالغة .. فيداي ترتعشان وعيناي تتابع الحركة التي نشطت اسفل قدمي .. دخلت شقتي غير مصدق أني قد نجوت من هذا الكابوس .. وتأكدت مراراً وتكراراً من أني قد أحكمت إغلاق الباب، وأن أي منها لم يتمكن من الدخول ورائي.
سانداً ظهري إلى الباب .. مددت يدي لأضيء نور الصالة .. في هذا الجزء من الثانية خيل إليَّ ان هناك خيالات تمرق من امامي .. تسمرت في مكاني ولم أستطع ان أدير عيني لأستيقن مدى حقيقة هذا الخيال.
حاولت تهدئة نفسي .. وأخذت أحدثها أن هذا خيال عارض تحت تأثير أحداث اليوم غير المنطقية .. ثم أخذت أتسلل متفقداً غرف المنزل في حذر وأضيء الأنوار غرفة تلو الأخرى حتى أتأكد أن ما ترائى لي هو محض اوهام .. وعندما تأكدت من خلو المنزل من أي مخلوقات حية خلافي .. تنفست الصعداء.
وقفت تحت دش الماء الساخن لأزيل عن رأسي كل أثر للخيالات والأوهام .. ولكن لم تفلح تلك الحيلة أو غيرها .. وظلت رأسي تتماوجها الأفكار والتساؤلات التي ليس لها اجابة أو تفسير .. !!
أطل الصباح دون أن أنال قسطاً كافياً من النوم .. فهي أطارت النوم من عيني وطاردتني في كوابيسي عندما غفلت عيني تعباً .. فأستفيق ذعراً لأجدها ماثلة امامي ، وكأنه أسوء كابوس يمكن أن يحدث فهي تطاردني يقظةً ومناماً.
وإن كانت أطيافهم تطاردني داخل البيت (ظناً) فكيف سأتخطاهم لأذهب لعملي .. وكيف سأتمكن من الخروج .. فهم في انتظاري خارجاً (يقيناً) ؟
توجهت إلى الباب وظللت واقفاً أمامه متردداً .. ولكن لا مناص من المواجهة.
فتحت الباب .. كان المنظر باعثاً على الرهبة .. فقد تجمعوا حول بابي دون كل الابواب وجلسوا ينتظرونني.
فتحت الباب بحرص شديد .. تحركت ببطء وهم يتبعونني ونزلت السلم وهم يقتربون مني ويلتصقون بقدمي فتزداد حركتي بطء .. حتى بلغت أسفل السلم بصعوبة، ولم يتركوني إلا عند عتبة باب العمارة .. انطلقت إلى عملي وقد استرحت منهم قليلاً.
لاحظت أن اعداد القطط تتزايد في كل مرة أنزل أو أصعد فيها السلم .. !! لم أصدق نفسي في بادئ الأمر .. حتى تأكد لي بما لا يدع مجالاً للشك أنها تتزايد بالفعل .. وزيادتها ليست توالداً .. فالزيادة قطط بالغة والأعجب أنه ليس هناك تدرج في أعمار القطط فليس منها الصغير كما أن ليس منها المسن .. كما أن الزيادة ليست من قطط الشارع التي أعرفها جيدا .. والتي امتنعت عن دخول البيت منذ ظهور السكان الجدد ..!!
ثم تراءى لي أن أؤاخيهم .. وتذكرت كلمة الشيخ سليمان " طالما ماشي على العهد لن يؤذوك ..!!"
هل كانت تلك الزيارة ليست برغبة مني ولكنها بدعوة خفية من سليمان ليسلم العهد بعد مماته لمن يستطيع رعايته؟
دخلت على الفور إلى المطبخ وجمعت كل الأوعية التي تصلح للمهمة .. وملأتها بالماء واللبن وكل الأطعمة التي احتواها المطبخ .. وفكرت ألا أضع الطعام قريبا من بابي حتى أبعدهم عني ولو لحين.
راعيت العهد حسب علمي المحدود .. فصرت أداوم على تنظيف الآنية ووضع الطعام والماء واللبن .. ولكنهم لم يراعوا أي عهد - أو لعلي لم أكن مؤهلاً لتلك العلاقة - فتزايدت الخيالات والكوابيس.
كنت أذهب وأعود من عملي ساهداً من الأرق وقلة النوم .. حتى أصابني الوهن وتاه تركيزي وصار عقلي على المحك .. فجاء اليوم الذي وقع فيه المحظور .. فلم أستطع ان أتبين ما تحت قدمي ودست في بطن احداها فأنشبت مخالبها في ساقي وهي تصرخ مدافعة عن حقها في الحياة ثم أنتفضت انتفاضة قوية تلتها ارتخاءه لكامل اوصالها مفضية لكل أثر للحياة.. تذكرت قول الشيخ: "أبقى خذ بالك وأنت طالع ونازل السلم أحسن تتعثر فيهم لأن دول زعلهم وحش قوي ..!!"
ظللت متفكراً فيما يمكن أن يصيبني من جراء فعلتي .. حتى استسلمت للتعب وغفلت عيناي .. متوقعاً سيء الأحلام كالعادة .. غفلت عيني ولكني كنت في كامل وعيي ليأتى كائنين غير مرئيين فشدا وثاقي استعدادا لذبحي .. حاولت الصراخ فلم أستطع .. حاولت المقاومة .. ولكني لم أتمكن.
استفقت وأنا أشعر بأثر نصل السكين على حنجرتي .. امسكت برقبتي وأنا غير مصدق أني قد نجوت .. فأنا لا محالة لست بواهم وليس بحلم .. انهم ينتوون ذبحي ..!!
قمت لأغسل وجهي لعلي أفيق من هذا الكابوس المستمر ليل نهار .. وأخذت أحدث نفسي:
-         "إلى متى سأظل سجين هذا الخوف .. إلى متى سأظل سجين تلك الزيارة المشؤومة لبيت الشيخ سليمان".
خطر على بالي الذهاب إلى مصطفى .. فهو السبب المباشر فيما حل بي .. وعليه ان يجد لي الحل .. ذهبت إلى المقهى لأبحث عنه .. فإذا بالمقهى خاوياً على عروشه .. إنساني التفكير ما نزلت من أجله وبحثي عن مصطفى .. فأخذت أسير في الشوارع على غير هدى .. وكلما لمحت قطاً تجنبته وتركت له جانب الشارع لأسير على الجانب الآخر.
ظللت سائراً لا أريد العودة إلى المنزل .. بل أخافها .. حتى جذب انتباهي نافذة محل يعرض أسلحة وسكاكين .. فبرقت في رأسي الفكرة.
فاشتريت سكيناً .. وبمجرد دخولي إلى مدخل البيت .. استجمعت شجاعتي وقوتي .. وأنقضضت على الوحش الأسود من بينهم ونحرته بغل وقسوة غير عابئ بمخالبه التي نشبها في يدي والتي مزقت اجزاء من جسدي .. وللعجب فقد هرع القط الأبيض من بين جيش القطط المحتشدة محاولاً إنقاذ الوحش الأسود .. فأمسكت به هو الأخر وجززت عنقه على مرأى ومسمع من عشيرتهم .. وكان لهم خوار عجيب اثناء انسلال روحيهما من جسديهما وانتظرت حتى انتفضت السيقان في تعبير عن تمام انقضاء الحياة الأولى .. ثم جال في خاطري انهم اصحاب سبع حياوات .. ولن أنتظر حتى يهبوا من جديد فينتقموا مني شر انتقام .. لابد من تدبر امرهما للقضاء على كل الحيوات السبع مرة واحدة .. حرت في امري قليلاً .. وبعد تفكير قررت أكلهما ..!!
قمت بسلخهما امام باقي العشيرة .. التي تتابع الحدث مفجوعة وقد أخذها الذهول.
تناولت هاتفي المحمول .. أتصلت بمصطفى وبشلة القهوة واحداً واحداً .. وألححت عليهم في العزومة وأصررت على مجيئهم:
-         العزومة النهاردة ملوكي .. ملوخية بالأرانب ..!!
وأنا اودعهم فتحت الباب بحذر خفي .. اختفت القطط تماما .. لم تعد من يومها .. ولكن بدأت زيارات من نوع آخر ..!!
***
وليد الحداد

القاهرة في فبراير 2013

No comments:

Post a Comment