Saturday, August 17, 2013

بقايا التاشر

بقايا التاشر


-         ياااه دا أنت قديم قوى يا باشمهندس.
قالها وهو يضحك .. ضحكة ملؤها الحيوية والشباب، ضحكة دفعتني للابتسام .. رغم المشاعر التي أثارتها في نفسي تلك الكلمات البسيطة التي أطلقها صديقي الشاب بعفوية شديدة.
رنت الكلمات في أذني كجرس منبه أيقظني من غفوة .. طار خلالها الزمن فاستيقظت لأجد نفسي بالفعل "قديم" ... قديم بحساب الزمان ... ولكن قلبي ما زال يعانى من أعراض التاشر.
خفق قلبى بشدة وكأنه يرفض الاعتراف بأنني صرت "قديماً" ، وثار محاولاً التأكيد على أني مازلت في سن التاشر.. كيف وقد جاوزت منتصف العمر وأنتشر الشيب في رأسي وغلب على لحيتي؟
مرت بجوارنا سهام .. تلك الأنثى التي تتفجر أنوثتها متجاوزة دروع حشمة ملابسها وما تحاول أن تظهره من الصرامة .. ليست صارخة الجمال .. لكنها محاطة بهالة غامضة من الجاذبية تجعل الأنظار دائماً مشدودة إليها .. طريقتها في الابتسام والكلام تفتح الشهية لافتعال أي حديث معها، عطرها الهادئ المميز ينبه الحواس .. ألتفت زميلي الشاب إليها ونادى عليها بحماسته المعهودة وقد تغيرت ملامح وجهه واكتست بحمرة .. داعياً إياها مشاركتنا في الحديث وإدلائها بالرأي.
كان الحديث عن مشاحنة بينه وبين خطيبته (أو من يود خطبتها) بسبب قبله لم ينلها، وإن كان تمنعها خيراً أم شراً .. وارتأى أن الحاجة ملحة لرأى أنثوي حيث ما زال يرى أن وجهة نظري "قديمة".
لم أصدق انه فعلا سوف يشركها معنا في الحديث! وأمسكت بيده ونظرت إليه مشدوها قائلاً في دهشة وفزع:
-         هتفضحنا الله يخرب بيتك.
أنفجر ضاحكاً من خجلي، مؤكداً أنهن خلاف ما أعتقد تماماً.
وفي إقبالها علينا تعثرت فمددت يدي، وكأني قد مددتها لالتقاط ثمار الرمان التي تدلت فجأة باحثة عن كفي لتستقر في راحتها.
اختلطت حمرة خجل وجنتيها بآهة فاضحة المدلول على ما يخالف مظهرها ثم على عكسي فلقد تجاوزت الموقف سريعاً واندمجت معنا في الحديث.
وقد كان مما كان من حضور سهام أنها أعادت لي ذاكرتي في حنيني إلى النساء وتأثري الشديد بهن إلى درجة كانت تخجلني .. لم أكن لأحب أن يظهر مدى تأثري برؤية أنثى لهذه الدرجة الفاضحة .. وكثيراً ما حبست نفسي وراء مكتبي لأن أحداهن مرت من أمامي وألقت عليَّ التحية أو كانت تمازح شخصاً ما فتبع تلك المزحة ضحكة ماجنة مطولة .. فتثور بداخلي تلك الرغبات والنزعات فاضحة التأثيرات .. فأضطر إلى التواري حتى أعود إلى حالتي الطبيعية .. فأين يمكنني الاختباء الآن؟
في الماضي كم حاولت أن أخفى تلك المشاعر عميقاً بداخلي .. أخفيها خجلاً ... وإحساساً بالذنب .. ويأساً .. وخوفاً .. وتعففاً، ومن شدة عمق المخبأ الذي أخفيها فيه أصبح من الصعب عليَّ إخراجها وقت حاجتي إليها.
كنت أظن أن تأثري بهن قد خفت ، ولكنه ما حدث الآن يثبت أنه خفوت ظاهري فقط.
مرت عليَّ أوقات كثيرة كنت أخجل من نفسي بشدة، حيث لا استطيع استدعاء قدرتي وقت مسيس الحاجة إليها.
وأعجب من حالي كيف كانت تلك المشاعر والتغيرات تفرض نفسها وتسيطر علي جسدياً وعاطفياً ويظهر تأثيرها جلياً مما يخجلني بشدة والحالة التي تسيطر عليَّ في غالب أوقاتي الآن والتي أيضاً تخجلني بشدة، ولكن ما حدث في تلك اللحظة يخجلني أيضاً، فهل تلك النفس اللعينة تلعب معي لعبة القط والفأر؟.
-         ياباشمهندس الكلام أيلي بتقوله ده ما ينفعش معاهم دلوقتي .. لازم يندبح لها القطة من أول لحظة.
أنقذني من افكاري، وقد كانت تلك العبارات التى رد عليا بها عندما نصحته (أمام سهام) بتدليلها، وذلك بخلاف النصائح الأخرى المتعلقة بكيفية ارضاءها وفي نفس الوقت نيل وطره منها، مما لا يجوز ذكره في حضور سهام.
-         يا حسين قطة أيه بس يا أبني .. أنت فاهم غلط .. أحنا في عصر تمكين المرأة، هتدبحلها القطة ممكن تدبحلك أسد أو تدبحك انت شخصياً وترفع عليك قضية بتهمة عدم الموت بطريقة رومانسية وخريت دم وبوظت السجادة.. يا أبني خاف على نفسك وأمشي جنب الحيط ، وأعقل كده، فطريقك يا ولدي مسدود مسدود مسدود.
          كاد يقع على قفاه من شدة الضحك.
-         أنت سددتها من أولها ليه يا باشمهندس .
          ثم ألتفت إلى سهام مخاطباً:
-         طيب بذمتك ده كلام يا سهام؟
          فنظرت سهام تجاهي .. نظرة تحمل العديد من المعاني المركبة المتداخلة والمتناقضة في آن واحد .. فلقد رأيت في عينيها شفقة مما قد يكون قد وصل إليها من كلامي من خوف طفولي من سطوة النساء وافتراءهن .. كما أن نظراتها كانت تحمل معاني الرغبة في ذلك الرجل الذي ينصح بتدليل المرأة وقد كان كفه يأوي رمانها في رقة متناهية منذ برهة .. فكيف هي حاله إذا أتيحت له فرصة حقيقية لتدليل أنثى راغبة .. كما أختلط كل ذلك بمعاني الإعجاب برأي من شرب من حكمة الأيام والسنون .. ثم علقت باسمة:
-         يا حسين أسمع كلام الباشمهندس أحسن لك .. دى خبرة سنين يا أبني مش أي كلام، أكيد هو مجرب وعارف.
وقعت عبارة "أكيد هو مجرب وعارف" وقع الصاعقة .. هل تقصدها فعلا وقد قالتها بعفوية؟ أم أنها تقصد بها أن تختبر مدى تجربتي ومعرفتي؟
أيقظت تلك العبارة ذات التأويلات المستترة في نفسي مارد التاشر، سريع الافتتان بالنساء .. سريع الوقوع في حبالهن والاستسلام لمكرهن.
استفاق الرجل الناضج مستدعياً صورة الشعيرات البيضاء التي بدأت تضيء رأسه محاولاً صرع المارد والسيطرة عليه ملقياً عليه تعاويذ طلسم "السنين" ليعيده مرة أخرى إلى القمقم ويلقيه في غياهم أعماق النفس، ليتذكر أن هيأته الوقورة ووضعه الاستشاري الآن لا يسمح له بإطلاق هذا الشيطان.
حاولت المقاومة وأنا أدافع تلك الأحاسيس الجياشة التي انتابتني عندما مسست جسدها وكأن جني قد مسني .. أنها ترفع الحواجز والأسلاك الشائكة التي أحاول دائماً أن أحبس وراءها ذلك الشهواني اليافع.
أن ما حدث جعل الأمواج والرياح مختلفة الاتجاهات والألوان تتدافعنى .. فتارة أجد نفسي طفلاً صغيراً يبحث عن أم ترعاه وترضعه.. وتارة شاباً يافعاً متقد الحماسة متأجج الأحاسيس والمشاعر .. وقد تاه الشيخ الحكيم ملجأ الحيارى والسائلين.
وبينما هم يتراوحون في الجدل حول حسين وخطيبته لاحظت أنى أطيل النظر واستمرأه حتى لا تبتعد سهام واشبع من حديثها الأنثوي واشبع حواسي من عطرها الدافئ واجتر اللحظة التي سقطت في يدي فاكهة الجنة التي تتدلى منها، حتى أنني لاحظت أنني أتابع لغة جسدها بكل هجاءتها فتعبيرات وجهها وحركات يديها وتموجات جسدها وهى تتكلم ... تثير حواسي كما كانت تفعل غيرها فى أيامي الغابرة .. إنها تستدعي ذلك الجزء مني والذي لم يزل في سن التاشر.
ثم أشرت إليها محدثاً صديقي الشاب .. وبدون أن أكون قد سمعت كلمة مما قالت .. فكل مدركاتي تتابع لغة أخرى تتحدثها غير الكلام.
-         شفت بقى الحكمة بتيجى منين ؟ اسمع كلام سهام عشان تكسب وتعيش حياة سعيدة مع خطيبتك إن شاء الله.
ثم حاولت التهرب والاختباء بعد ان صرت مفضوحاً، أو هكذا أعتقدت!
-         بعد إذنكم يا جماعة علشان المحاضرة هتبدأ .. انتوا مش ناويين تحضروا ولا ايه؟
          تنبهت إلى تلك المحاضرة التي يجب علينا أن نحضرها، فنحن فى صف واحد، وقد يكون السبب الأساسي لإلتحاقى بهذا الصف هو الهروب من واقع انى أصبحت "قديماً" وكنت أجتهد فيه أيما اجتهاد حتى اثبت للجميع أن "الدهن في العتاقي".. فذلك العجوز لا يزال يملك حماسة الشباب والقدرة على مجاراتها وإن كان في غرفة الدرس.
          وبعد أن انتهينا .. اقتربت منى سهام مبتسمة ثم وضعت يدها على يدي في لمسة سريعة كأنها لمسة مشجعة وقالت لي:
-         على فكرة آراءك عجبتنى قوى أنا حسيت أنى بتكلم مع إنسان رومانسي وحساس جدا، ياريت كل الرجالة زيك.
          قالتها ثم التفتت وانصرفت، بعد أن أيقظت كل المردة والوحوش القديمة التي كانت تسكن بين جنبات نفسي والتي كنت أظنها ماتت ودفنت وصارت رفاتاً، ولم أزل أتابعها بنظراتي وهى تبتعد لعلى ارتوى أكثر واتبين من لغة جسدها ما لم تكن لتقوله بكلماتها .
          استفقت وقد وجدتني واقفاً وحدي وقد انصرف الجميع .. أخرجت من جيبي تلك المفكرة الصغيرة التي تذكرني بمواعيدي .. فذاكرتي لم تعد تسعفني بما يجب عليَّ عمله.. وقبل أن أنسى خططت فيها بعض الخطوط التي تذكرني بالواجبات التي تم تكليفنا بها اليوم للمحاضرة القادمة .. ثم قلبت الصفحة لأتذكر المطلوب فعله الآن .
          موعد طبيب القلب بعد نصف ساعة من الآن !
          عندها أدركت أن سفينة التاشر وإن كانت ذكرياتها غضة وحاضرة إلا أنها تبتعد مسرعة .. فالقلب وإن كره .. إلا أنه كتب عليه أن يهرم مثلما يهرم كل شيء فى الحياة.
***
وليد الحداد
أغسطس 2011