Sunday, June 9, 2013

الجهة المقابلة

الجهة المقابلة


راودتني نفسي على اقتحام تلك البقعة الغامضة والتي تطل عليها شرفتي، تلك المساحة الكبيرة من الأرض .. والمسورة بحائط شاهق يزين منتصف ضلعه الموازي للشارع باب حديدي محصن، السور والباب يحجبان ما وراءهما عن المارة الغادين والرائحين، والباب نادراً ما يفتح !
لكني وحدي أستطيع من شرفتي العالية أن أرى ما وراء السياج، مزرعة واسعة، ليس من الواضح طبيعة هذه المزرعة أو نوعية النباتات المزروعة فيها، ولم يخطر في بالي من قبل أن أسأل!
فتلمست الحجج التي يمكن التذرع بها لاقتحام تلك القلعة الحصينة ، والنقطة العجيبة، والتي لا تتماشى أبداً مع البيئة المحيطة بها، فاحتمال أن تفتح شرفتك لترى مساحة خضراء في القاهرة هو احتمال ضعيف جداً.
تزامنت تلك الرغبة مع نقص الجرجير في السوق، حيث أنني من عشاقه ولا يمكنني تصور طبق السلاطة الخضراء المقدس بدونه .. فلأدخل وأسأل عنه! فطالما وجدت بقعة أرض تزرع فلابد من وجود الجرجير.
وإن لم يتوفر، لأراودن  السيد غفير المزرعة لزراعة خط أو خطين متسلحاً بحجج ما للجرجير من أسرار وقوى لا تخفى على الذكور من الكائنات، متمنيا بكل جوارحي أن يستجيب لطلبي هذا مما يضمن لي سببا مقنعاً لدوام ترددي عليه وقتما أشاء.
عرجت عليه في يوم من الأيام بعد عودتي من العمل، ومن حظي كان الباب موارباً وكأنه يدعوني للدخول:
-    سلام عليكم .. أزيك يا ريس .. كل سنة وأنت طيب، إيه يا عم الجمال ايلى انتم قاعدين فيه ده .. يا ترى زارعين جرجير ؟
أجاب السيد الغفير بعد أن ضحك ضحكة مطولة تبعتها نوبة سعال كادت تودي بأنفاسه وتصعد بروحه إلى السماء .. أجابني كأنه يستزيد ويستأنس الحديث معي على غير ما توقعت منه:
-         إن شاء الله أسبوع كده ونزرع خطين جرجير وعلى فكرة عندنا أعشاب طبية وعطرية.
ثم نظر إليَ في تأمل وريبة وكأنه يتأمل مخلوق فضائي نزل تواً من القمر، وسحب نفس عميق من سيجارته حتى تأججت شعلتها ثم سألني وهو يزفر دخانها:
-         سيادتك من سكان العمارات ايلى قدامنا دى ؟
وأشار بيده أشارة ذات مغزى غامض ناحية العمارة التي أسكنها.
 أجبت في تلقائية ممتزجة بشيء من البلاهة:
-         أيوة ليه !
لم يرد علي إنما هز رأسه وكأنما يؤكد لنفسه ظنونه.
صارت صداقة بيني وبينه منذ ذلك الحين، وألفني وألفته وكأن كل واحد منا هو صلة الآخر بزمان ومكان وحياة آخرى مختلفة غير التي يحياها، وأحيانا عندما تضج بي الحياة وضجيجها والأسرة وخلافاتها أعرج عليه لألقى السلام متحججاً بشراء بعض الزعتر والبردقوش وأعشاب أخرى يقدمها لي ولا ادري لها أسماً، ولأمتع نفسي بهذا الهدوء نادر الوجود ولأذكر أن الحياة ليست صراعات وشجارات فقط ولكن توجد أيضاً نقط محايدة تتساوى عندها جميع الأشياء، زاوية مختلفة أرى منها نفسي كما لم أرها من قبل.
ووقع في روعي أحساس غريب (قد يكون هذا هو الذي جعل راعي المزرعة ينظر لي تلك النظرة الغريبة والتي لم أستطع تفسيرها إلى الآن؟).
-         ياه هو إحنا إيلى ساكنين في الشقة ايلى شباكها هناك ده ؟
أكاد أراني من هنا .. صغيراً .. نكرة تمشي على قدمين .. أكاد أراني وأنا أتشاجر مع زوجتي وأحصي عليها كم عود جرجير وضعت في صحن السلاطة، وكم عود تخلصت منه للتهرب من عناء غسله.
هل يمكن أن تتغير نظرة الإنسان لشيء لمجرد أنه غير زاوية الرؤية ؟ وهل يمكن للإنسان أن يتغير عندما تتغير رؤيته للأشياء؟
كما اني من هذه الزاوية .. أرى مخلوقات أخرى تشبهني تلهث وتركض وتدور في دوائر مفرغة لا تؤدى بهم إلى أي شيء .. وهم يوماً بعد يوم يزيدون من سرعة دورانهم كما ولو كانوا يعتقدون أنهم في طريق مستقيم وأن وجهتهم تستدعى العجلة ويجهلون أنهم يدورون في دائرة مفرغة واحدة وما أن تسكن حركة أحدهم حتى يمتص في مركز الدائرة وكأن بها جاذبية هائلة.
نفس الوجوه في نفس التوقيت تفعل نفس الأشياء كل يوم  في رتابة بلهاء! وكـأنها سلبت الوعي والإدراك والرؤية والإرادة، أو هكذا أراها من هذه النقطة.
ومن الجهة المقابلة عندما أطل من الشرفة وألقى ببصري على هذه المزرعة لا أرى سوى السكون والركود وكأن الزمان قد توقف عند هذا المكان .. ترى هل الزمان في هذا المكان هو نفس الزمان المعرف عندنا في التقاويم والساعات والأجندات ؟ قد تكون هذه البقعة من الأرض ثقباً أسوداً هائلاً في الزمان يمتص الذكريات والساعات، منتظرة أن يتم ابتكار آلة تفك شفرة الذكريات فتبوح بما لديها وما امتصته على مر الأحقاب.
وأرى العمال قليلي العدد الذين يعملون بها وصديقي الغفير يشرف عليهم ، كأنهم ينتمون إلى شعوب عاشت في هذا المكان من قرون سحيقة وكأن العصور لم تمر عليهم ولم يمس الزمان أي منهم بأي تغيير ! ملابسهم تشبه ملابس قدماء المصريين، وحتى أصواتهم كنت لا أتبينها جيداً وكنت أخالها لغة قديمة مبهمة، وصارت لدى شكوك أن ذاك الغفير من أقرباء رمسيس الثاني المقربين حيث أن درجة الشبه بينه وبين مومياء الفرعون البائد شديدة العجب، ومما يزيد الصورة غموضاً ألا أحد يعلم ماذا يزرعون أو يحصدون.
ولا أعلم لماذا عندما يقع بصري الآن على تلك البقعة من الأرض أشعر أن الهدوء الذي تلتحف به قد امتص كل الضوضاء المحيطة بها، أشعر بالرهبة الشديدة وتسرى في جسدي قشعريرة وكأن تلك البقعة من الأرض هي مركز الدائرة التي أدور أنا فيها وتنتظر منى أن أتوقف عن الدوران حتى تمتصني بجاذبيتها إلى باطنها المجهول، وهى تعلم أنى حتماً ستنهار قواي وأتوقف عن الدوران وكلما زادت سرعة الدوران كلما دل ذلك على دنو لحظة التوقف.
صحيح أنى قد رأيت الزمان والمكان رؤية مختلفة عندما نظرت إليها من الجهة المقابلة ولكنى ما زلت أتساءل:
-         كيف يراني هو من تلك الزاوية؟
*****
وليد الحداد

يناير 2008

No comments:

Post a Comment